كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

البحث الثاني أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي ووجه الإستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله افعل ما تؤمر ولأنه عليه السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأمورا به لكان ذلك ممتنعا شرعا وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان الفعل مع حضور الوقت لكان عاصيا
واعترض عليه بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصيا لجواز أن يكون الوقت موسعا فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ وأجيب أما أولا فبأنه لو كان موسعا لكان الوجوب متعلقا بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعا فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنهم يقولون : إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه والإلزام توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب وأما ثانيا فبأنه لو كان موسعا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله مما يؤخر عادة وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم السلام المبادة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلهم قدرا سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعا للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الإستدلال وربما دفعوه بوجوه أخر منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهما بإراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله افعل ما تؤمر وإقدامه على الذبح والترويع المحرم لو لا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى إن هذا لهو البلاء المبين وقوله سبحانه وفديناه بذبح عظيم ولو لا الأمر لما كان بلاء مبينا ولما احتاج إلى الفداء وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيمك عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير ظائز ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء وخمنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح وتعقب بأن هذا لا يسمع أما أولا فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلا معتبرا وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والإحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة وأما ثانيا فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء وكونه لأن الإزهاق لم يحصل ليس بشيء ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفا بالمحال وهم لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخا قبل التمكن فهو لنا لا علينا ومن السادة الحنفية من قال : ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به وفي التلويح فإن قيل : هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه قيل : لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا

الصفحة 137