كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

نقص لمنصب الرسالة طرحناه ونحن كما قال الشاعر : ونؤثر حكم العقل في كل شبهة إذا آثر الأخبار جلاس قصاص انتهى ويقرب من هذا من وجه ما قيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه عليه السلام فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم فقصد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى وامتحان له هل يغضب لنفسه أم لا فاستغفر ربه مما عزم عليه من الإنتقام منهم وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به وقيل : الإستغفار كان لمن هجم عليه وقوله تعالى فغفرنا له على معنى فغفرنا لأجله وهذا تعسف وإن وقع في بعض كتب الكلام وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوة ولا يقبل تأويلا يندفع معه ذلك ولا بد من القول بأنه لم يكن منه عليه السلام إلا ترك ما هو الأولى بعلي شأنه والإستغفار منه وهو لا يخل بالعصمة
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض إما حكاية لما خوطب به عليه السلام مبينة لزلفاه عنده عز و جل وإما مقول لقول مقدر معطوف على غفرنا أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق وهو على الأول مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوبا من قبله لتنفيد ما يريده وعلى الثاني من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما والأول أظهر والمنة أعظم فهو عليه السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات : خليفة الله في بريته جفت بذاك الأقلام والكتب وقالت الصحابة لأبي بكر : خليفة رسول الله وبذلك كان يدعي إلى أن توفى فلما ولي قالوا خليفة خليفة رسول الله فعدل عنه اختصارا إلى أمير المؤمنين وذهب الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره إلى أن الخليفة من الرسل من فوض إليه التشريع ولعله من جملة اصطلاحاته ولا مشاحة في الإصطلاح واستدل بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله عز و جل وهو قول من أوجب على الله تعالى نصب الإمام لأنه من اللفظ والواجب عليه سبحانه والجماعة لا يقولون بذلك والإمامة عندهم من الفروع وإن ذكروها في كتب العقائد وليس في الآية ما يلزم منه ذلك كما لا يخفى وتحقيق المطلب في محله فاحكم بين الناس بالحق الذي شرعه الله تعالى لك فالحق خلاف الباطل وأل فيه للعهد وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي بحكم الحق أي الله عز و جل للعلم بأن الذوات لا يكون محكوما بها وتعقب بأن مقابلته بالهوى تأبى ذلك ولعل من يقول به يجعل المقابل المضاف المحذوف والمقابلة باعتبار أن حكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق وفرع الأمر بالحكم على ما تقدم لأن الإستخلاف بكلا المعنيين مقتض للحكم العدل لا سيما على المعنى الأول لظهور اقتضاء كونه عليه السلام خليفة له تعالى أن لا يخالف حكمه حكم من استخلفه بل يكون على وفق إرادته ورضاه
وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة وذكر الحق لأن به سداده وقيل ترتب ذلك لأن

الصفحة 186