كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

الخيل وهو في الصلاة فأشار إليهم إني في صلاة فأزالوها عنه حتى دخلت في الأصطبلات فقال لما فرغ من صلاته : إني أحببت حب الخير أي الذي لي عند الله تعالى في الآخرة بسبب ذكر ربي كأنه يقول فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى دخلت اصطبلاتها ردوها علي فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها وتكريما وروي أن المسح كان لذلك عن ابن عباس والزهري وابن كسيان ورجحه الطبري وقيل كان غسلا بالماء ولا يخفى أن تطبيق هذه الطائفة الآية على ما يقولون ركيك جدا
وقال الرازي : قال الكثرون إنه عليه السلام فاته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى الخيل فاستردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى وعندي أنه بعيد ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله تعالى وامسحوا برؤسكم اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه ذلك البتة الثاني أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان أنواعا من الأفعال المذمومة فأولها ترك الصلاة وثانيها أنه استولى عليه الإشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة وقد قال عليه الصلاة و السلام حب الدنيا رأس كل خطيئة وثالثها أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة ورابعها على القول برجوع ضمير ردوها إلى الشمس أنه خاطب رب العالمين بكلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس وخامسها أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل سوقها وأعناقها وقد ورد النهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله فهذه من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لا يدل على شيء منها وسادسها أن ذكر هذه القصة وكذا التي قبلها أمره بالصبر على سفاهة الكفار يقتضي أن تكون مشتملة على الأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة والصبر على طاعة الله تعالى والإعراض عن الشهوات واللذات وأما اشتمالها على الإقدام على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة فبمراحل عن مقتضى التعقيب فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على القول المذكور بالفساد والصواب أن يقال : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين نبينا صلى الله عليه و سلم ثم أن سليمان احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر إني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد من قوله عن ذكر ربي ثم أنه عليه السلام أمر بأعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور
الأول تشريف لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو والثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه والثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وامراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير الذي ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا موافقا ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام ثم قال : وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا ما شاع من الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردانها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة ولفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرها الجمهور كما قد ظهر ظهورا لا يرتاب العاقل فيه وبفرض الدلالة يقال إن الدلائل الكثيرة

الصفحة 195