كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

ذلك بعض الملك الذي استوهبه فالمختص على تقدير إفادة الآية الإختصاص مجموع ما تضمنه قوله تعالى : فسخرنا الخ فالظاهر عدم إكتفاء من يدعي استخدام شيء من الجن ونحن قد شاهدنا مرارا من يدعي ذلك وشاهدنا آثار صدق دعواه على وجه لا ينكره الأسوفسطائي أو مكابر
ومن الإتفاقيات الغريبة أني اجتمعت يوم تفسيري لهذه الآية برجل موصلي يدعي ذلك وامتحنته بما يصدق دعواه في محفل عظيم ففعل وأتى بالعجب العجاب وكانت الأدلة على نفي احتمال الشعبذة ونحوها ظاهرة لذوي الألباب إلا أن لي إشكالا في هذا المقام وهو أن الخادم الجني قد يحضر الشيء الكثيف من نحو صندوق مقفل بين جمع في حجرة أغلقت أبوابها وسدت منافذها ولم يشعر به أحد ووجه الإشكال أن الجني لطيف فكيف ستر الكثيف فلم ير في الطريق وكيف أخرجه من الصندوق وأدخله الحجرة وقد سددت المنافذ وتلطف الكثيف ثم تكثفه بعد مما لا يليقه إلا كثيف أو سخيف ومثل ذلك كون اللإحضار المذكور على نحو إحضار عرش بلقيس بالإعدام والإيجاد كما يقوله الشيخ الأكبر أو بوجه آخر كما يقول غيره ولعل الشرع أيضا يأبى هذا وسرعة المرور أن نفعت ففي عدم الرؤية في الطريق وقصارى ما يقال لعل للجني سحرا أو نحوه سلب به الإحساس فتصرف بالصندوق ومنافذ الحجرة حسبما أراد وأتى بالكثيف يحمله ولم يشعر به واحد من الناس فإن تم هذا فبها وإلا فالأمر مشكل وظاهر جعل جملة قال رب اغفر لي تفسيرا للإنابة يقتضي أن الإستغفار مقصود لذاته لا وسيلة للإستيهاب وفي كون الإستيهاب مقصودا لذاته أيضا احتمالان
وتقديم الإستغفار على تقدير كونهما مقصودين بالذات لمزيد اهتمامه بأمر الدين وقد يجعل مع هذا وسيلة للإستيهاب المقصود أيضا فإن افتتاح الدعاء بنحو ذلك أرجى للإجابة وجوز على بعد بعد التزام الإستئناف في الجملة كون الإستيهاب هو المقصود لذاته والإستغفار وسيلة له وسيجيء إن شاء الله تعالى ما قيل في الإستئناس له
وقريء من بعدي بفتح الياء وحكى القراءة في لي وقوله تعالى : إنك أنت الوهاب
35
- تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معا لا للدعاء بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضا من أحكام وصف الوهابية قطعا ومن جوز كون الإستيهاب هو المقصود استأنس له بهذا التعليل ظنا منه أنه للدعاء بالأخيرة فقط وكذا بعدم التعرض لإجابة الدعاء بالأولى فإن الظاهر أن قوله تعالى : فسخرنا له الريح إلى آخره تفريع على طلبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ولو كان الإستغفار مقصودا أيضا لقيل فغفرنا له وسخرنا له الريح الخ وأجيب بأنه يجوز أن يقال : إن المغفرة لمن استغفر لا سيما الأنبياء عليهم السلام لما كانت أمرا معلوما بخلاف هبة ملك لمن استوهب لم يصرح بها واكتفلا بدلالة ما ذكر في حيز الفاء مع ما في الآية بعد على ذلك وتقوى هذه الدلالة على تقدير أن يكون طلب الملك علامة على قبول استغفاره وإجابة دعائه فتأمل والتسخير التذليل أي فذللناها لطاعاه إجابة لدعوته وقيل أدمنا تذيليلها كما كان وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر الرياح بالجمع قيل : وهو أوفق لما شاع من أن الريح تستعمل في الشر والرياح في الخير وقد علمت أن ذلك ليس بمطرد وقوله تعالى تجري بأمره بيان لتسخيرها له عليه السلام أو حال أي جارية بامره رخاء أي لينة من الرخاوة لا تحرك لشدتها واشتشكل هذا بأنه ينافي قوله تعالى : ولسليمان الريح عاصفة لوصفها ثمت بالشدة وهنا باللين
وأجيب بأنها كانت في أصل الخلقة شديدة لكنها صارت لسليمان لينة سهلة أو أنها تشتد عند الحمل وتلين

الصفحة 202