كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

خفاء في أن الجمع في وقت واحد أكمل أصنافه لكن لما شاع استعماله تأكيدا أقيم مقام كل في إفادة الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة بلفظ آخر لم يكن بد من ملاحظة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء ولو سلم فكل تأكيد الشمول بإخراجه عن الظهور إلى المنصوص و أجمعون تأكيد ذلك التأكيد فيفيد أتم أنواع الإحاطة وهو الإحاطة في وقت واحد واستخرج هذه الفائدة من جعله كإقامة المظهر مقام المضمر لا يلوح وجهه والنقض بقوله سبحانه لأغوينهم أجمعين منشؤه عدم تصور وجه الدلالة وظاهر هذه الآية وآية الحجر أن سجودهم مترتب على ما حكى من الأمر التعليقي وكثير من الآيات الكريمة كالتي في البقرة والأعراف وغيرهما ظاهرة في أنه مترتب على الأمر التنجيزي وقد مر تحقيق ذلك فليراجع
وقوله تعالى : إلا إبليس استثناء متصل لما أنه وإن كان جنيا معدود في زمرة الملائكة موصوف بصفاتهم لا يقوم ولا يقعد إلا معهم فشملته الملائكة تغليبا ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم أو هو استثناء منقطع وقوله تعالى : استكبر على الأول استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الإستثناء فإن تركه يحتمل أن يكون للتأمل والتروي وبه يتحقق أنه للإباء والإستكبار وعلى الثاني يجوز اتصاله بما قبله أي لكن إبليس استكبر وتعظم وكان من الكافرين
74
- أي صار منهم باستكباره وتعاظمه على أمر الله تعالى وترك الفاء المؤذنة بالسببية إحالة على فطنة السامع أو لظهور المراد
وكون التعاظم على أمره عز و جل لا سيما الشفاهي موجبا للكفرة لا ينبغي أن يشك فيه على أن هذا الإستكبار كان متضمنا استقباح الأمر وعده جورا ويجوز أن يكون المعنى وكان من الكافرين في علم الله تعالى لعلمه عز و جل أنه سيعصيه ويصدر عنه ما يصدر باختياره وخبث طويته واستعداده قال عز و جل على سبيل الإنكار والتوبيخ يا إبليس ما منك أن تسجد أي من السجود لما خلقت أي للذي خلقته على أن ما موصولة والعائد محذوف واستدل به على جواز إطلاق ما على آحاد من يعقل ومن لم يجز قال : إن ما مصدرية ويراد بالمصدر المفعول أي أن تسجد لمخلوق بيدي وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف تمثيل لكونه عليه السلام معتنى بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم وكونه جسما صغيرا انطوى فيه العالم الأكبر وكونه أهلا لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره ذلك من مزايا الآدمية وعند بعض آخر منهم اليد بمعنى القدرة والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى لأنها ترد لمجرد التكرير نحو فارجع البصر كرتين فأريد به لازمه وهو التأكيد وذلك لأن لله تعالى في خلقه أفعالا مختلفة من جعله طينا مخمرا ثم جسما ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من إثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مر وإما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة
والسلف يقولون : اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عز و جل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره فقد ثبت

الصفحة 225