كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

وعلى الثاني باعتبار الحدوث والقدوم ولذا قيل كنت من العالين دون أنت من العالين وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمنون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام أو هم ملائكة السماء كلهم لم يؤمروا بالسجود وإنما المأمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكبارا لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيدا أم قتلته
وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل استكبرت بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الإستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله :
بسبع رمينا الجمر أم بثمان
واحتمل أن يكون الكلام إخبالاا وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به قال أنا منه قيل هو جواب عن الإستفهام الأخير يؤدي مؤدي أنه كذلك أي هو من العالين على الوجه الأول وأنه ليس من الإستكبار سابقا ولاحقا في شيء على الوجه الثاني ويجري مجرى التعليل لكونه فائقا إلا أنه لما لم يكن وافيا بالمقصود لأنه مجرد دعوى أوثر بيانه بما يفيد ذلك وزيادة وهو قوله خلقتني من نار وخلقته من طين
76
- أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه ذكر النوعين تنبيها على أن المماثلة كافية فضلا عن الأفضلية ولهذا أبهم وفصل وقابل وآثر خلقتني وخلقته دون أنا من نار وهو من طين ليدل على أن المماثلة في المخلوقية مانعة فكيف إذا انظم إليها خيرية المادة وفيه تنبيه على أن الآهر كان أولى أن يستنكف فإنه أعني السجود حق الآمر واستلطفه صاحب الكشف ثم قال : ومنه يعلم أن جواب إبليس من الأسلوب الأحمق وجعل غير واحد قوله أنا خير منه جوابا أولا وبالذات عن الإستفهام بقوله تعالى : ما منعك أن تسجد بادعاء شيء مستلزم للمانع من السجود على زعمه وقوله خلقتني الخ تعليلا لدعوى الخيرية
وأيا ما كان فقد أخطأ اللعين إذ لا مماثلة في المخلوقية فمخلوقية آدم عليه السلام باليدين ولا كذلك مخلوقيته وأمر خيرية المادة على العكس في النظر الدقيق ومع هذا الفضل غير منحصر بما كان من جهتها بل يكون من جهة الصورة والغاية أيضا وفضل آدم عليه السلام في ذلك لا يخفى وكأن خطأه لظهوره لم يتعرض لبيانه بل جعل جوابه طرده وذلك قوله تعالى : قال فاخرج منها والفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بأظهر الأباطيل أي فاخرج من الجنة والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها
وعن ابن عباس أنه كان في عدن لا في جنة الخلد ثم أنه يكفي في صحة الأمر كونه ممن اتخذ الجنة وطنا ومسكنا ولا تتوقف على كونه فيها بالفعل وقت الخطاب كما هو شائع في المحاورات يقول من يخاصم في السوق أو غيره في دار : أخرج من الدار مع أنه وقت المخاصمة ليس فيها بالفعل وهذا إن قيل : إن المحاورة لم تكن في الجنة وقيل : منها أي من زمرة الملائكة المعززين وهو المراد بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد وكانت على ما روي عن الحسن بطريق النداء من باب الجنة على أن كثيرا من العلماء أنكروا الهبوط من السماء بالكلية بناء على أن الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام كانت في الأرض وقيل : أخرج من الخلقة التي أنت فيها وانسلخ منها والأمر للتكوين وكان عليه اللعنة يفتخر

الصفحة 227