كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية : كل في فلك فلكة كفلكة المغزل يسبحون ويدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل وأخرج الأخيران عن مجاهد أنه قال : لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل والنجوم في فلكة كفلكة المغزل فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس سره جعل الله تعالى السماوات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السماوات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عالقة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها ثم أنه عز و جل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السماوات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله تعالى والسماء ذات الحبك فسميت تلك الطرق أفلاكا فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة وجعل سبحانه لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة تعينها أجرام الكواكب لإضائتها إلى آخر ما قال : وقال الإمام : إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق الشماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الإستدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى في فلم يسبحون والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه
وأرباب الهيئة أنكروا ذلك للزوم الخرق والإلتئام أن انشق موضع الجري والتأم أو الخلاء أن انشق ولم يلتئم والكل محال عندهم وعندنا لا محالية في ذلك وما يلزم هنا الخرق والإلتئام لأنه المفهوم من يسبحون ولا دليل لهم على الإستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل وظاهر الآية أن كل واحد من من النيرين في فلك أي في مجرى خاص به و وهذا مما يشهد به الحس وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنهم يقولون باتحاد الفلك والسماء ولما سمعوا عمن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع إلى المشرق ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها والفلك الأعظم لاحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب وسمعوا عن الشارع ذكر السماوات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا : السماوات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السماوات والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك وقد أخطؤا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه فالفلك غير السماء وقوله تعالى مع ما هنا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا لا يدل على الإتحاد لما قلنا من أن الكوكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية نعم ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات وكلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية وهي لا تكسف