كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

من الأشياء على أنه مفعول على الحذف والإيصال ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون
54
- أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الإستمرار من الكفر والمعاصي فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والإرتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو إلا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه وقيل : لا تجزون إلا نفس ما كنتم تعملونه بأن يظهر بصورة العذاب وهذا حكاية عمال يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعا لهم واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام إخبارا من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير نفس واختاره السكاكي وقيل : عليه يأباه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظلم إما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك أو المراد بقوله تعالى ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وقوله تعالى إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون
55
- على تقدير كون الخطاب السابق خاصا بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الأخبار بحسن حال أعدائهم أثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الإقتداء بسيرة المؤمنين وعلى تقدير كونه عاما ابتداء كلام وإخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤنه لكونه أهم عنده من الكل أما لا يجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد ههنا هو الأول وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال وعن ابن عباس وابن مسعود وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار
وقيل السماع وروي عن وكيع وعن ابن كسيان التزاور وقيل ضيافة الله تعالى وهي الجمعة في الفردوس الأعلى عند كثيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعا وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا ولعل التعميم أولى
وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه جملة أشغالهم وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه وإفراد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الإعتبار والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبرا لإن و فاكهون خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر و في شغل متعلق به أو حال من ضميره والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عباس فرحون وأخرجوا عن مجاهد أن المعنى يتعجبون بما هم فيه
وقال أبو زيد : الفاكه الطيب النفس الضحوك ولم يسمع له فعل من الثلاثي وقال أبو مسلم : إنه مأخوذ من الفكاهة بالضم وهو التحدث بما يسر وقيل التمتع والتلذذ قيل فاكهون ذووا فاكهة نحو لابن وتأمر
وظاهر صنيع أبي حيان اختياره والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الإسمية قبل تحقفها لتنزيل المترقب والمتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين
وقرأ الحرميان وأبو عمرو شغل بضم الشين وسكون الغين وهي لغة في شغل بضمتين للحجازيين كما قال الفراء

الصفحة 34