كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)
وامتازا اليوم أيها المجرمون
59
- أي انفردوا على المؤمنين إلى مصيركم من النار وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أي اعتزلوا عن كل خير وعن الضحاك لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أي على خلاف ما للمؤمنين من الإجتماع مع من يحبون ولعل هذا بعد زمان من أول دخولهم فلا ينافي عتاب بعضهم بعضا الوارد في آيات أخر كقوله تعالى وإذ يتحاجون في النار ويحتمل أنه أراد لكل صنف كافر كاليهود والنصارى وجوز الإمام كون الأمر امر تكوين كما في كن فيكون على معنى أن الله تعالى يقول لهم ذلك فتظهر عليهم سيماء يعرفون بها كما قال سبحانه يعرف المجرمون بسيماهم ولا يخفى بعده والجملة عطفا ما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أصحاب الجنة من عطف القصة على القصة فلا يضر التخالف إنشائية وخبرية وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أصحاب الجنة كأنه قيل أثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم أيها المجرمون
قاله أبو السعود وقال الخفاجي : يجوز أن يكون بتقدير ويقال امتازوا على أنه معطوف على يقال المقدر العامل في قولا وهو أقرب وأقل تكلفا لأن حذف القول وقيام معموله مقامه كثير حتى قيل فيه هو الحبر حدث عنه ولا حرج وفيه يظهر بأدني تأمل وقيل : إن المذكور من قوله تعالى إن أصحاب الجنة إلى هنا تفصيل للمجمل السابق أعني قوله تعالى : ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون وبنى عليه أن المعطوف عليه متضمن لمعنى الطلب على معنى فليتميز المؤمنون عنكم يا أهل المحشر وامتازوا عنهم إلى النار وتعقبه في الكشف بأنه ليس بظاهر إذ باحد الأمرين غنية عن الآخر ثم قال : والوجه أن المقصود عطف قصة أصحاب النار على جملة قصة الجنة وأوثرها هنا زيادة للتهويل والتعنيف ألا ترى إلى قوله تعالى أصلوها اليوم وإن كان لا بد من التضمين فالمعطوف أولى بأن يجعل في معنى الخبر على معنى وإن المجرمون ممتازون منفردون
وفائدة العدول ما في الخطاب من النكتة أه وما ذكره من حديث إغناء أحد الأمرين عن الآخر سهل لكون الأمر تقديريا مع أن الإمتياز الأول على وجه الإكرام وتحقيق الوعد والآخر على وجه الإهانة وتعجيل الوعيد فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك : إن اعتبار فليتميز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكي عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع الأيجدي نفعا لأن مناط الإعتبار والإضمار انسياق الإفهام إليه نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الإعتبار يكون التصدي لإضمار شيء يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار والذي يغلب على الظن ما ذكر لا يفيد أكثر من أولوية تقدير فليقروا عينا على تقدير فليمتازوا فليفهم وقال بعض الأذكياء : يجوز أن يكون امتازوا فعلا ماضيا والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الإسمية الخبرية ولا منع منه وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر نحو يوسف أعرض عن هذا قليل الجدوي وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من