كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

قدس سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في ترجمة القرآن أن قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس يفيد جواز ذلك وذكر فيه أن الشاهد بأثم إن لم يشهد بعلمه ولا يخفى عليك ما للفقهاء في المسئلة من الكلام وكأن الشهادة على الإحتمال الثاني بعد الإستشهاد بأن يقال للأركان ألم يفعل كذا فتقول بلى فعل
ويمكن أن تكون بعد أن تؤمر الأركان بالشهادة بأن يقال لها اشهدي بما فعلوا فتشهد معددة أفعالهم وهذا إما بأن تذكر جميع أفعالهم من المعاصي وغيرها غير مميزة المعصية عن غيرها وكون ذلك شهادة عليهم باعتبار الواقع لتضمنها ضررهم بذكر ما هو معصية في نفس الأمر وإما بأن تذكر المعاصي فقط وهذا يحتاج إلى التزام القول بأن الأركان تميز في الدنيا ما كان معصية من الأفعال مالم يكن كذلك ولا أظنك تقول به ولم أسمع أن أحدا يدعيه وذهب بعضهم إلى أن تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها بأن يبدل الله تعالى هيآتها بأخرى يفهم منها أهل الحشر ويتدلون بها على ما صدر منهم فجعلت الدلالة الخالية بمنزلة المقالية مجازا وفيه أنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة لا سيما وما يأتي في سورة السجدة من قوله تعالى قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ظاهر جدا في النطق القالي والأخبار أظهر وأظهر نعم يهون على هذا القول أمر الإستبعاد ولا يكاد يترك لأجله الظواهر العلماء الأمجاد هذا والآية كالظاهرة في تكليف الكفار بالفروع إذ لو يكونوا مكلفين بها لا فائدة في شهادة الأعضاء بما كسبوا وإتمام الحجة عليهم بها وتخصيص ما كسبوا بالكفر مما لا يكاد يلتفت إليه ولا أظن أن أحدا يقول به بل ربما يدعى تخصيصه بما سوى الكفر بناء على أنه أفعال القلب دون الأعضاء التي تشهد لكن الذي يترجح في نظري العموم
وشهادتها إما بشهادتها بما يدل عليه من الأفعال البدنية والأقوال اللسانية أو بالعلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى لها ذلك اليوم أو بالعلم الحاصل لها بخلق لله تعالى في الدنيا فتعلمه بواسطة الأفعال والأقوال الدالة عليه أو بطريق آخر يعلمه الله تعالى وهي ظاهرة في أن الحشر يكون بأجزاء البدن الأصلية لا ببدن آخر ليس فيه الأجزاء الأصلية للبدن الذي كان في الدنيا إذ أركان ذلك البدن لم تكن الأعمال السيئة معمولة بها فلا يحسن الشهادة بها منها فليحفظ وقريء يختم مبنيا للمفعول وتتكلم أيديهم بتاءين وقريء ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم بلام الأمر على أن الله تعالى يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة وروي عبد الرحمن بن محمد ابن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ وتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام كي والنصب على معنى لتكليم الأيدي أياما ولشهادة الأرجل نختم على أفواههم ولو نشاء لطمسنا أعينهم بيان أنهم اليوم في قبضة القدرة ومستحقون للعذاب إلا أنه عز و جل لم يشأ ذلك لحكمته جل وعلا الباهرة والطمس إزالة الأثر بالمحو والمعنى لو نشاء الطمس على أعينهم وإزالة ضوئها وصورتها بالكلية بحيث تعود ممسوحة لطمسنا عليها وأذهبنا أثرها
وجوز أن يراد بالطمس إذهاب الضوء من غير إذهاب العضو وأثره أي ولو نشاء لأعميناهم وإيثار صيغة الإستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ينص في إفادة انتفاء اسمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه
وقوله تعالى : فاستبقوا الصراط عطف على لطمسنا على الفرض والصراط منصوب بنزع الخافض أي فأرادوا الإستباق إلى الطريق الواضح المألوف لهم فأنى يبصرون
66
- أي فكيف يبصرون ذلك الطريق

الصفحة 44