كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)
وجهة السلوك والمقصود إنكار أبصارهم وحاصله لو نشاء لأذهبنا أحداقهم وأبصارهم فلو أرادوا الإستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لا يقدرون عليه ولا يبصرونه وتأويل استبقوا بأرادوا الإستباق مما ذهب إليه البعض وقيل لتأويله فإن الأعمى يجوز شروعه في السباق ونصب الصراط بنزع الخافض ولم ينصب على الظرفية لأنه كالطريق مكان مختص ومثله لا ينتصب على الظرفية وجوز كون مفعولا به لتضمين استبقوا معنى ابتدروا ونقل عن الأساس في قسم الحقيقة استبقوا الصراط ابتدروه قال في الكشف : اليه لا تضمين وادعى بعضهم توهم دعوى أن ذلك معنى حقيقيي وصاحب الأساس إنما ذكره في آخر قسم المجاز والمعنى لو شئنا لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا الإستباق متبدرين الطريق لا يبصرون وقيل يجوز كونه مفعولا به على أن استبقوا بمعنى سبقوا ويجوز الطريق مسبوقا على التجوز في النسبة أو الإستعارة المكنية أو على أنه بمعنى جاوزوا قال في القاموس : استبق الصراط جاوزه وظاهره أنه حقيقة في ذلك وقال غير واحد : هو مجاز والعلامة اللزوم والمعنى ولو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضربوا به من المقاصد دون غيرها
وذهب ابن الطراوة إلى أن الصراط وما أشبههما من الظروف المكانية ليست مختصة فيجوز انتصابها على الظرفية هذا خلاف ما صرح به سيبويه وجعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب والمعنى في الآية لو انتصب على الظرفية لو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيرا هم لم يستطيعوا وحمل الأعين على ما هو الظاهر منها أعني الأعضاء المعروفة والصراط على الطريق المحسوس هو المروي عن الحسن وقتادة وعن ابن عباس حمل الأعين على البصائر والصراط على الطريق المعقول
أخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه قال : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أعميناهم وأضللناهم عن الهدى فأنى يبصرون فكيف يهتدون وهو خلاف الظاهر وقرأ عيسى فاستبقوا على الأمر وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا وهو أمر تعجيز إذ لا يمكنهم الإستباق مع طمس الأعين ولو نساء لمسخناهم أي لحولنا صورهم إلى صور أخرى قبيحة عن ابن عباس أي لمسخناهم قردة وخنازير وقيل : لمسخناهم حجارة وروي ذلك عن أبي صالح ويعلم من هذا الخلاف أن في مسخ الحيوان المخصوص لا يشترط بقاء الصورة الحيوانية وسمي بعضهم قلب الحيوان جمادا رسخا وقلبه نباتا فسخا وخص المسخ بقلبه حيوانا آخر ومفعول المشيئة على قياس السابق أي ولو نشاء مسخهم على مكانتهم لمسخناهم على مكانتهم أي مكانهم كالمقامة والمقام
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في معنى الآية لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم
وقال الحسن وقتادة وجماعة المعنى لأقعدناهم وازمناهم وجعلناهم كسحالا يقومون وقرأ الحسن وأبو بكر مكاناتهم بالجمع لتعددهم فما استطاعوا لذلك مضيا أي ذهابا إلى مقاصدهم ولا يرجعون
67