كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)
ما علمه الله تعالى هو القرآن وإذا لم يكن المعلم شعرا لم يكن القرآن شعرا البتة وفيه أنه عليه الصلاة و السلام ليس بشاعر إدماجا وليس هناك كناية تلويحية كما قيل وهذا رد لما كانوا يقولونه من أن القرآن شعر والنبي صلى الله عليه و سلم شاعر وغرضهم من ذلك أن ما جاء به عليه الصلاة و السلام من القرآن افتراء وتخيل وحاشاه من ذلك وما ينبغي له اعتراض لتقرير ما أدمج أي لا يليق ولا يصلح له صلى الله عليه و سلم الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف وأكثره تحسين ما ليس بحسن وتقبيح ما ليس بقبيح وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب وجل جناب الشارع عن ذلك كذا قيل
وقال ابن الحاجب : أي لا يستقيم عقلا أن يقول صلى الله عليه و سلم الشعر لأنه لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه وأنه من تلك القوة الشعرية ولذا عقب هذا بقوله تعالى ويحق القول على الكافرين لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة فيحق القول عليهم وتعقب بأن الإيجاز يرفع التهمة وإلا فكونه عليه الصلاة و السلام في المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة في النثر ليس بأضعف من قول الشعر في كونه مظنة تطرق التهمة بل ربما يتخيل أنه أعظم من قول الشعر في ذلك فلو كانت علة منعه عليه الصلاة و السلام من الشعر ما ذكر لزم أن يمنع من الكلام الفصيح البليغ سدا لباب الريبة ودحضا للشبهة وإعظاما للحجة فحيث لم يكن ذلك اكتفاء بالإعجاز وأن التهمة والريب معه مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ولذا الريب مع أنه وقع أن العلة في أنه عليه الصلاة و السلام لا ينبغي له الشعر شيء آخر واختار هذا ابن عطية وجعل العلة ما في قول الشعر من التخييل والتزويق للقول وهو قريب مما سمعت أولا هو الذي ينبغي أن يعول عليه وفي الآية عليه دلالة على غضاضة الشعر وهي ظاهرة في أنه عليه الصلاة و السلام لم يعط طبيعة شعرية اعتناء بشأنه ورفعا لقدره وتبعيدا له صلى الله عليه و سلم من أن يكون فيه مبدأ لما يخل بمنصبه في الجملة
وإنما لم يعط صلى الله عليه و سلم القدرة على الشعر مع حفظه عن إنشائه لأن ذلك سلب القدرة عليه في الإبعاد عما يخل بمنصبه الجليل صلى الله عليه و سلم ونظير ما ذكرنا العصمة والحفظ ويفهم من كلام المواهب اللدنية أن من الناس من ذهب إلى أنه عليه الصلاة و السلام كان له قدرة على الشعر إلا أنه يحرم عليه أن يشعر وليس بذاك نعم القول بحرمة إنشاء الشعر مقبول ومعناه على القول السابق على ما قيل حرمة التوصل إليه وقد يقال : لا حاجة إلى التأويل وحرمة الشيء تجامع عدم القدرة عليه وهل عدم الشعر خاص به عليه الصلاة و السلام أو عام لنوع الأنبياء قال بعضهم هو عام لهذه الآية إذ لا يظهر للخصوص نكتة وقيل بحوز أن يكون خاصا والنكتة زيادة التكريم لما أن مقامه صلى الله عليه و سلم فوق مقام الأنبياء عليهم السلام ويكون الثابت لهم الحفظ عن الإنشاء مع ثبوت القدرة عليه وإن صح خبر إنشاء آدم عليه السلام يوم قتل ولده : تغيرت البلاد ومن عليها ووجه الأرض مغبر قبيح تغيرت كل ذي طعم ولون وقل بشاشة الوجه الصبيح اتضح أمر الخصوص وعلم أن لا حفظ من الإنشاء أيضا ولعل الحفظ حينئذ مما فيه ما يشين ويخل بمنصب النبوة مطلقا والنكتة في الخصوص ظاهرة على ما نقل عن ابن الحاجب لأن أعظم معجزاته عليه الصلاة