كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

الملائكة كلهم سجدا فتحسب الجن أن أمرا يقضي فتسترق فإذا فزع عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا رؤسهم قالوا : ماذا قال ربكم قالوا جميعا : الحق وهو العلي الكبير وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن إبراهيم التيمي إذا أراد ذو العرش أمرا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا : ماذا قال ربكم قال من شاء الله : الحق وهو العلي الكبير ولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضا أن الإستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك الأصول الأشعرية ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للأفلاك ليس عدم الحجب أغرب منها
ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع أو أمر الملائكة عليهم السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه أو جعل مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الإبتلاء وفيه أيضا من الحكم ما فيه ولا يخفى أن هذا الإشكال يجري في أشياء كثيرة إلا كون الصانع حكيما وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خاق وأمر على أتم وجه حتى قيل ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين العلماء المحققين
فاستفتهم أي فاستخبرهم وأصل الإستفتاء الإستخبار غن أمر حدث ومنه الفتي لحداثة سنه والضمير لمشركي مكة وقيل : والآية في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت أهم أشد خلقا أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجادا أم من خلقنا من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب وتعريف الموصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والإستفهام تقريري وجوز أن يكون إنكاريا وفي مصحف عبد الله أم من عددنا وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها وقرأ الأعمش أمن بتخفيف الميم دون أم جعله استفهاما ثانيا تقريريا فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد إنا خلقناهم من طين لازب
11
- أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير وجماعة عن ابن عباس وفي رواية أخرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة : فلا تحسبون الخير لا شر بعده ولا تحسبون الشر ضربة لازب قيل : والمراد ملتزق بعضه ببعض وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن جيد التخمير وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه يلزق باليسد إذا مس بها وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم وقد قريء لازم بالميم بدل الباء و لاتب بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد وحكى في

الصفحة 75