كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

ما يأتي بعد وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح والخمر ليس بمتعين قال في البحر الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك وقال الراغب : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا يقال خال ويقال شربت كأسا وكأس طيبة ولعل كلامه أظهر في أن تسمية الخالي كأسا مجاز وحكى عن بعضهم أنه قال : الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره من معين
45
- في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية
ووصف به خمر الجنة تشبيها لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارا جارية في الجنان ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبيء عن دوسها بها قوله : بنت كرم يتموها أمها ثم هانوها بدوس بالقدم ثم عادوا حكموها فيهم ويلهم من جور مظلوم حكم وقول الآخر : وشمولة من عهد عاد قد غدت صرعى تداس بأرجل العصار لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت منهم فصاحت فيهم بالثار وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة وجوز أن تكون ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر وتفيد الآية وصف مائهم باللذة والنشأة وما ذكر أولا هو الظاهر نعم قال غير واحد : لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما بيضاء وصف آخر للكأس يدل على أنها مؤنثة وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ صفراء وقد جاء وصف خمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس : صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر : وحمراء قبل المزج صفراء بعده أتت في ثيابي نرجس وشقائق حكت وجنة المحبوب صرفا فسلطوا عليها مزاجا فاكتست لون عاشق لذة للشاربين
46
- وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق وأنشدوا قوله : ولذ كطعم الصرخدي تركته بأرض العدا من خشية الحدثان يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد وقوله : بحديثك اللذ الذي لو كلمت أسد الفلاة به أتين سراعا

الصفحة 87