كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)

ما يليق بهم من التكاليف كما قيل : فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى : وزينا السماء الدنيا بمصابيح أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الإرتفاع والإنخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها والإلتفات إلى نون العظمو لإبراز مزيد العناية وأما قوله تعالى : وحفظا فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى : زينا أي وحفظناها حفظا والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار إليه في البحر
وجعل قوله تعالى ذلك إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور تقدير العزيز العليم
12
- أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكي عنه : فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ولا يخفى عليك أن حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقر به وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السماوات كذلك لا يلائم دعوى الإعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه
وقيل : إن إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالإتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخرا عن جعل الرواسي كلاما أيضا ستعرفه إن شاء الله تعالى وقيل : المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد آتيا وقالتا أتينا على أن ذلك من المواتات بمعنى الموافقة قال الجوهري : تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتى كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم وقال ابن جني : هي المسارعة وهو حسن أيضا ولم يجعله أكثر الأجلة من الإيتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفنا في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى
واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السماوات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولا خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه : ثم استوى إلى السماء الخ وأبى أن يكون الأمر بالإتيان للأرض أمر تكوين ولظاهر قوله تعالى : في آية البقرة خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى

الصفحة 104