كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)

إلى السماء فسواهن سبع سماوات وأول آية النازعات أعني قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها الخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الأرل لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك ميت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكأنه بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم وقد تستعمل ثم أيضا بهذا المعنى وكذا الفاء وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس
فقد روي الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال : رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال : هات ما اختلف عليك من ذلك فقال : أسمع الله تعالى يقول : أتنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض حتى بلغ طائعين فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى : أم السماء بناها ثم قال والأرض بعد ذلك دحاها فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض وأما قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا انتهى قال الخفاجي : يعني أن قوله تعالى : أخرج منها ماءها بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والإنتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت : بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعت الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا فإن قلت : كيف هذا مع ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا أن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال عليه الصلاة و السلام : خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت : الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي ولا يخفى أن قول ابن عباس

الصفحة 105