كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)
الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا وفي الكشف أنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النووية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسماوات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السماوات سابق في الزمان على خلق الأرض ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السماوات وكذلك ومتى حمل ثم للترتيب في الأخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والأخبار هذا والله تعالى أعلم ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى الله الذي خلق السماوات وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وقوله سبحانه : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكما من حيث ذاته ونفسه وحكما من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة والله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام وذلك عند نشئتها في ذاتها من خلقه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض من الزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهوالمسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية وهذا الجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحو قطعا كما يشعر به قوله تعالى وخلق كل شيء فقدره تقديرا وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضا كما في قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وقوله تعالى هنا ثم استوى إلى السماء وهي دخان إلى قوله سبحانه فقضاهن سبع سماوات وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السماوات والأرض لإيجاد أنفسها فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي فجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحدات البركة وليست من تلك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سماوات خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السماوات وما بينهما وبين الأرض الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السماوات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينهما وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السماوات