كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)
النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف تهاجر وتسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم الخ
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتبا فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا
وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات الثلاث قل يا عبادي إلى وأنتم لا تشعرون بالمدينة في وحشي وأصحابه ويخلل قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا بين المعطوفين تعليلا للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وإن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى : إنه هو الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلي باللام وقد أكد بما صار ونصا في الإستغراق ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كاكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفا والذي يترجح في نظري ما اختاره من عموم الخطاب في يا عبادي العاصين والكافرين وأمر الإضافة سهل وإن قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا وكون الأمور كلها متعلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد بالمشرك مالم يؤمن لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان فالمشرك داخل فيمن يشاء لكم بالشرط المعروف واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه
ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ما أحب أن ليس الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك فسكت النبي صلى الله عليه و سلم ساعة ثم قال : إلا ومن أشرك ثلاث مرات لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة و السلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الإجتهاد لأنا نقول : السؤال للإستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحا
وقيل : الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الإجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة و السلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى الله عليه و سلم وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء ويؤيد إطلاق المغفرة على قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم فإنه ليس للايبالي كثير حسن إن