كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)

وقرأ عيسى والجحدري مطويات بالنصب على أن السماوات عطف على الأرض مشاركة لها في الحكم أي والسماوات قبضته و مطويات حال من السماوات عند من يجوز مجيء الحال من مثل ذلك أو من ضميرها المستتر في قبضته على أنها بمعنى مقبوضته أو من ضميرها محذوفا أي أثبتها مطويات و بيمينه متعلق بمطويات أو على أن السماوات مبتدأ و بيمينه الخبر و مطويات حال أيضا إما من المبتدأ أو من الضمير المحذوف أو من الضمير المستتر في الخبر بناء على مذهب الأخفش من جواز تقديم الحال في مثل ذلك
والكلام عند كثير من الخلف تمثيل لحال عظمته تعالى ونفاذ قدرته عز و جل وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إليها بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ويمين بها يطوي السماوات أو بحال من يكون له قبضته فيها الأرض والسماوات ويمين بها يطوي السماوات من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز بالنسبة إلى المجرى عليه وهو الله عز شأنه وقال بعضهم : المراد التنبيه على مزيد جلالته عز و جل وعظمته سبحانه بإفادة أن الأرض جميعا تحت ملكه تعالى يوم القيامة فلا يتصرف فيها غيره تعالى شأنه بالكلية كما قال سبحانه : الملك يؤمئذ لله والسماوات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصاها شيء
وفيه رمز إلى ما يشركونه معه عز و جل أرضيا كان أم سماويا مقهور تحت سلطانه جل شأنه وعز سلطانه فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف كما يقال : بلد كذا في قبضة فلان واليمين مجاز عن القدرة التامة وقيل : القبضة مجاز عما ذكر ونحوه والمراد باليمين القسم أي والسماوات مفنيات بسبب قسمه تعالى لأنه عز و جل أقسم أن يفنيها وهو مما يهزأ منه لا مما يهتز استحسانا له والسلف يقولون أيضا : إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عز و جل إلا أنهم لا يقولون : إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد إنا نجد الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول : أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة و السلام وما قدروا الله حق قدره الآية والمتأولون يتأولون الأصابع على الإقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل : اقتل زيدا بأصبعي ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال : مر يهودي على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جالس قال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة والأرضين على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى وما قدروا الله حق قدره وجعل بعض المتأولين الإشارة إعانة على التمثيل والتخييل وزعم بعضهم أن الآية نزلت ردا لليهودي حيث شبه وذهب إلى التجسيم وإن ضحكه عليه الصلاة و السلام المحكي في الخبر السابق كان للرد أيضا تصديقا له في الخبر من كلام الراوي على ما فهم ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر جدا وجعلوا أيضا من باب الإعانة على التمثيل وتخييل العظمة فعله عليه الصلاة و السلام حين قرأ هذه الآية فقد أخرج الشيطان والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وما قدروا الله حق قدره والأرض

الصفحة 26