كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)
وقضاءه سبحانه عليهم بدخول الناس النار إلا بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له سبحانه في الأزل وكذا قوله عز و جل لأملأن فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافي التعليل بآخر فتذكر وتدبر
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل المراد بالسوق هنا الحث على السير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام واختير للمشاكلة وقوله سبحانه : إلى الجنة يدفع إيهام الإهانة مع أنه قد يقال : إنهم لما أحبوا لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءهم فلذا حثوا على دخول دار كرامته جل شأنه قاله بعض الأجلة و واختار الزمخشري أن المراد بسوقهم سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين وهذا السوق والحث للإسراع بهم إلى دار الكرامة
وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل والإستدلال بقوله تعالى : يوم تحشر المتقين إلى الرحمن وفدا لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركبانا وان الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة وفي الكشف أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم انتهى وأقول : إن حمل الذين اتقوا على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإن حمل على الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشيا
ففي صحيح مسلم عن أبن مسعود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول : لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه الحديث وقال بعض العارفين : إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عز و جل ثانيا لا يحبون فراق ذلك المواطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عز و جل وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا على المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغدا لسان حال كل منهم يقول : وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم ويدل على رؤيتهم إياه عز و جل هناك ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : إن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا : لا قال :