كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)

وقريء وصدق به مبنيا للمفعول مشددا لهم ما يشاءون عند ربهم بيان لما لأولئك الموصوفين بالمجيء بالصدق والتصديق به في الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم في الدنيا من حسن الأعمال أي لهم كل ما يشاؤنه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤنه من تكفير السيئات وإلا من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة ذلك الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤنه جزاء المحسنين
34
- أي الذين أحسنوا أعمالهم والمراد بهم أولئك المحدث عنهم لكن أقيم الظاهر مقام الضمير تنبيها على العلة لحصول الجزاء وقيل : المراد ما يعمهم وغيرهم ويدخلون دخولا أوليا وقوله تعالى : ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا الخ متعلق بمحذوف أي ليكفر الله عنهم ويجزيهم خصهم سبحانه بما خص أو بما قبله باعتبار فحواه على ما قيل أي وعدهم الله جميع ما يشاؤنه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا الخ وليس ببعيد معنى عن الأول وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه : وذلك جزاء المحسنين أي بما يدل عليه من الثبوت أو بالمحسنين كما قال أبو حيان فكأنه قيل : وذلك جزاء الذين أحسنوا أعمالهم ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوه ويجزيهم أجرهم ويعطيهم ثوايهم بأحسن الذي كانوا يعملون
35
- وتقديم التكفير على إعطاء الثواب لأن درء المضار أهم من جلب المسار
وأقيم الاسم الجليل مقام الضمير الراجع إلى ربهم لإبراز كمال الإعتناء بمضمون الكلام وإضاغة أسوأ وأحسن إلى ما بعدهما من إضافة أفعل التفضيل إلى غير المفضل عليه للبيان والتوضيح كما في الأشج أعدل بني مروان ويوسف أحسن أخوته والتفضيل على ما قال الزمخشري للدلالة على أن الزلة المكفرة عندهم هي الأسوأ لاستعظامهم المعصية مطلقا لشدة خوفهم والحسن الذي يعملونه عند الله تعالى هو الأحسن لحسن إخلاصهم فيه
وذلك على ما قرر في الكشف لأن التفضيل هنا من باب الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه نظرا إلى وصوله إلى أقصى الغاية الكمالية ثم لما كانوا متقين كاملي التقي لم يكن في عملهم أسوأ إلا فرضا وتقديرا
وقوله سبحانه : بأحسن الذي كانوا يعملون دون أحسن الذي كانوا يعملون يدل على أن حسنهم عند الله تعالى من الأحسن لدلالته على أن جميع أجرهم يجري على ذلك الوجه فلو لم يعملوا إلا الأحسن كان التفضيل بحسب الأمر نفسه ولو كان في العمل الأحسن والأحسن وكان الجزاء بالأحسن بأن ينظر إلى أحسن الأعمال فيجري الباقي في الجزاء على قياسه دل أن الحسن عند المجازي كالأحسن فصح على التقديرين أن حسنهم عند الله تعالى هو الأحسن ويعلم من هذا أن لا اعتزال فيما ذكره الزمخشري كما توهمه أبو حيان وأما قوله في الإعتراض عليه : إنه قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم و أحسن في التفضيل على ما هو عند الله عز و جل وذلك توزيع في أفعل التفضيل وهو خلاف الظاهر فقد يسلم إذا لم يكن في الكلام ما يؤذن بالمغايرة فحيث كان فيه ههنا ذلك على ما قرر لا يسلم أن التوزيع خلاف الظاهر وقيل : إن أسوأ على ما هو الشائع في أفعل التفضيل وليس المراد أن لهم عملا سيئا وعملا أسوأ والمكفر هو الأسوأ فإنهم المتقون الذين وإن كانت لهم سيئات لا تكون سيئاتهم من الكبائر العظيمة ولا يناسب التعرض لها في مقام مدحهم بل الكلام كناية على تكفير جميع سيئاتهم بطريق برهاني فإن الأسوأ إذا كفر كان غيره أولى بالتكفير لا أن ذلك صدر منهم ولا نسلم

الصفحة 4