كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)

المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيا من كل وجه وتقدير الفعل أي مقتكم الله غذ تدعون أبعد وأبعد وقيل : هي ظرف لمقت الثاني وعاترض بأنهم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة
وأجيب بأ الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه : إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقول عمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنا وكانت مقفرة من الزاد : الصيف ضعيف اللبن زذلك بأن يكون مجازا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه وقيل : إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الإيمان المنحي والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الإيمان وهو أبعد التأويلات وقال مكي : إذ معمولة لا ذكروا مضمرا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر وادعى صاحب الكشف أن فيه تنافرا بينا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل
وتفسير مقتكم أنفسكم بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضا فقيل : إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الأتباع لما أنهم أتبعوهم فحملوا أوزارا مثل أوزارهم فلا تغفل قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين صفتان لمصدري الفعلين والتقدير أمتنا إماتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين
وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضا بحذف الزوائد أو مصدران لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإنه الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين على طرز قوله : وعض زمان ياابن مروان وإن لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت الخ واختلف في المراد بذلك فقيل : أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياءتهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة وروي أيضا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية البقرة كيف تكفرون وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم والإماتة إن كانت حقيقية في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقية في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا : إن صيغة الأفعال التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عد إماته أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أيفلها قالوا : إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز على الآخر فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركبة مثلا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الإستعارة

الصفحة 51