كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)
كذبوا أولا بقولهم للنبي عليه الصلاة و السلام : لست صاحبنا وثانيا بقولهم : بل هو المسيح بن داود يعنون الدجال أما الكذب الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه لم يبعث نبي إلا وقد حذر أمته الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأخبار وهم قالوا : هو صاحبنا يعنون المبشر ببعثته آخر الزمان وكل ذلك من الجدال في آيات الله تعالى بغير سلطان فاستعذ بالله أي فالتجيء إليه تعالى من كيد من يحسدك ويبغي عليك وفيه رمز إلى أنه من همزات الشياطين وقال أبو العالية : هذا أمر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ من فتنة الدجال بالله عز و جل إنه هو السميع البصير
56
- أي لأقوالكم وأفعالكم والجملة لتعليل الأمر قبلها
وقوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه من أمر البعث الذي هو كالتوحيد في وجوب الإيمان به على منهاج قوله تعالى : أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وإضافة خلق إلى ما بعده من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لخلق الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خلقه سبحانه الناس لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيمة كلا شيء والمراد أن من قدر على خلق ذلك فهو سبحانه على خلق ما لا يعد شيئا بالنسبة إليه بدأ وإعادة أقدر وأقدر
وقال أبو العالية : الناس الدجال وهو بناء على ما روي عنه في المجادلين ولعمري أن تطبيق هذا ونحوه على ذلك في غاية البعد وأنا لا أقول به ولكن أكثر الناس لا يعلمون
57
- وهم الكفرة ولما كان ما قبل لإثبات البعث الذي يشهد له العقل وتقتضيه الحكمة اقتضاء ظاهرا ماسب نفي العلم عمن كفر به لأنهم لو كانوا من العقلاء الذين من شأنهم التدبر والتفكر فيما يدل عليه لم يصدر عنهم إنكاره ولم يذكر للعلم مفعولا لأن المناسب للمقام تنزيله منزلة اللازم وقيل : المراد لا يعلمون أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي لا يجرون على موجب العلم بذلك من الإقرار بالبعث ومن لا يجري على موجب علمه هو والجاهل سواء
وفي البحر أنه تعالى نبه على أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الإنسان بقوله سبحانه : لخلق الخ إن مخلوقاته تعالى أكبر وأجل من خلق البشر فما لأحدهم يجادل ويتكبر على خالقه سبحانه وتعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ولذلك جادلوا وتكبروا ولا يخفى أنه نفسير قليل الجدوى
وما يستوي الأعمى والبصير أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتهما وتفسير البصير بالله تعالى و الأعمى بالصنم غير مناسب هنا والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى : ولا المسيء وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان وقدم الأعمى لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل ذلك من باب التفنن