كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 24)
في البلاغة وأساليب الكلام والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل : ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث
وأعيدت لا في المسيء تذكيرا للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام ولو قيل : ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصا فيه أيضا لاحتمال أنه مبتدأ و قليلا ما تتذكرون خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي وهو أن تم فعلى القراءة بياء الغيبة وقيل : لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذ المراد بيان خسارته ولا يصفو عن كدر فتدبر والموصول مع ما عطف عليه معطوف على الأعمى مع ما عطف عليه عطف المجموع على المجموع كما في قوله تعالى : هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلا لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه وقيل : التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم وفي الآخرين إلى العمل وهو وجه لا بأس به وقيل : هما وإن اتحدا ذاتا متغايران اعتبار من حيث أن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل ونظر فيه بأنه اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه به وعكسه
قليلا ما تتذكرون
58
- أي تذكرا قليلا تتذكرون وقرأ الجمهور والأعرج والحسن وأبو جعفر وسيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار وقال الزمخشري : والتاء أعم وعلله صاحب التقريب بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة وقال القاضي : إن التاء للتغليب أو الإلتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله وآثر العلامة الطيبي الإلتفات لأن العدول من الغية إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين وتعقبه صاحب الكشف بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضا فليفهم والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطبا هنا والتقليل أيضا يصح إجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي وقال الجلبي : الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه و سلم من قريش فمن قال : المخاطب هو النبي عليه الصلاة و السلام لقوله تعالى : فاصبر ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقدسها ولم يتذكر
إن الساعة لآتية لا ريب فيها أي في مجيئها أي لا بد من مجيئها ولا محالة لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الأنبياء على الوعد الصادق بوقوعها ويجوز أن يكون المعنى أنها آتية وأنها ليست محلا للريب أي لوضوح الدلالة إلى آخر ما مر والفرق أن متعلق الريب على الأول المجيء وعلى هذا الساعة والحمل عليه أولى
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون
59
- لا يصدقون بها القصور نظرهم على ما يدركونه بالحواس الظاهرة واستيلاء