كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

بين الخ فإن حقيقة قولهم بين يدي فلان فلأن ما بين العضوين فتجوز بذلك على الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما فهو من المجاز المرسل ثانيهما استعارة الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس فيمانهوا عنه كتقدم الخادم بين يدي سيده في سيره حيث لا مصلحة فالمراد من لا تقدموا بين يدي الله ورسوله لا تقطعوا أمرا وتجزموا به وتجترؤا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم به ويأذنا فيه وحاصله النهي عن الأقدام على أمر من الأمور دون الأحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة
وجوز أن يكون تقدموا من قدم اللازم بمعنى تقدم كوجه وبين ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته وهي الجماعة المتقدمة منه ويعضده قراءة ابن عباس وأبيحيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم لا تقدموا بفتح التاء والقاف والدال وأصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا لأنه من التفعل وهو المطاوع اللازم ورجح ما تقدم بما سمعت وبأن فيه استعمال أعرف اللغتين وأشهرهما لا يقال : الظرف إذا تعلق به العامل قد ينزل مكنزلة المفعول فيفيد العموم كما قرروه في مالك يوم الدين فليكن الظرف ههنا بمنزلة مفعول التقدم مغنيا غناه والتقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة حسا فهو أوفق للأستعارة التمثيلية المقصود منها تصوير هجنة الحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته بصورة المحسوس فتخرج لا تقدموا على اللزوم أبلغ ولا يضره عدم الشهرة فإنه لا يقاوم إلا بلغية المطابقة للمقام لما أشار إليه في الكشف من أن المراد النهي عن مخالفة الكتاب والسنة والتعدية تفيد أن ذلك بجعل وقصد منه للمخالفة لأن التقديم بين يدي المرء أن تجعل أحدا إما نفسك أو غير متقدما بين يديه وذلك أقوى في الذم وأكثر استهجانا للدلالة على تعمد عدم المتابعة لا صدورها كيفما اتفق فافهم ولا تغفل
وجوز أن يكون بين يدي الله ورسوله من باب أعجبني زيد وكرمه فالنهي عن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة و السلام فكأنه قيل : لا تقدموا بين يدي رسول الله وذكر الله تعالى لتعظيمه عليه الصلاة و السلام والإيذان بجلالة محله ومزيد اختصاصه به سبحانه وأمر التجوز عليه على حاله وهو كما قال في الكشف أوفق لما يجيء بعده فإن الكلام مسوق لاجلاله عليه الصلاة و السلام وإذا كان استحقاق هذا الأجلال لاختصاصه بالله جل وعلا ومنزلته منه سبحانه فالتقدم بين يدي الله عز شأنه أدخل في النهي وأدخل وإن جعل مقصودا بنفسه على ما مر فالنهي عن الأستبداد بالعمل في أمر ديني لا مطلقا من غير مراجعة إلى الكتاب والسنة وعليه تفسير ابن عباس على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أنه قال : أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة وكذا ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردوبه عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا
ووجه الدلالة على هذا أن كلامه عليه الصلاة و السلام أريد به ما ينقله عنه تعالىولفظه أيضا وما اللفظ من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان المعنى من الوحي أو إذ كلام كل واحد من الله تعالى والرسول عليه الصلاة و السلام وما أخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن مجاهد أنه قال في ذلك : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه يخرج على نحو التخريج الأول لكلام ابن عباس ويكون مؤيدا له وبعضهم يروي أنه قال : لا تفتاتوا على الله تعالى

الصفحة 132