كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

والتشديد فيه للمبالغة كزيادة الباء في القراءة إلا أن ليس المعنى فيها أنهم نهوا عن الرفع الشديد تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون وهو نظير قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربى أضعافا مضاعفة
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أي جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم فالأول نهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة و السلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : الأول مخصوص بمكالمته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة و السلام كأنه قيل : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم ويفهم أيضا وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة و السلام فأيا ما كان يكونالمآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلى الله عليه و سلم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها ومنهنا قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة : والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لأكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله تعالى
وفي رواية أنه قال : يا رسول الله والله لااكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى وكان إذا وكان إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة و السلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه و سلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه وقيل : معنى ولا تجهروا له بالقول الخ ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه وكان الظاهر أن يقال مثلا : ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضا
أن تحبط أعمالكم تعليل لما قبله من التهين على طرق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهي عنه وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهي عنه ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التتي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوطذ لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء الله تعالى وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهي في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الأداء إلى حبوط العمل وقراءة ابن مسعود وزيد بن علي فتحبط بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الأحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبلها وقوله تعالى : وأنتم لا تشعرون
2
- حال من فاعل تحبط ومفعول تشعرون محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقا قد تحبط الأعمال الصالحة ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري :

الصفحة 135