كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

قد دلت الآية على أمرين هائلين أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام ما يحبط عمل المؤمن والثاني أن في أعماله ما لا يدري أنه محبط ولعله عند الله تعالى محبط
وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الأطلاق ومعلوم أن حكمالنهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والقاعدة المختارة أن إيذاؤه عليه الصلاة و السلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أولا حماية للذريعة وحسما للمادة ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة و السلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى إذ لا دليل ظاهرا يميزه وإن كان فلا ينفق تمييوه في كثير من الأحيان وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه : أن يحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وإلا فلو كان على ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقومه سبحانه : وأنتم لا تشعرون موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعا فعلى كلا حاليه الأحباط به محقق إذن فلا موقع لأدعام الكلام بعد الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا ثم قال عليه الرحمة : وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة إحداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الأجلال والأعظام ثانيهما أن إيذاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كفر وهذا قد نص عليه ائمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ولا تقبل توبته فما أعظم عند الله تعالى وأكبر انتهى
وحاصل الجواب أن لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي الحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الأستهانة فنهاهم عز و جل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون وقيل : يمكن نظرا للمقام أن ينزل إذا هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظا إجلالا لمجلسه صلوات الله تعالى عليه وسلامه ثم يرب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الأحباط كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت إلى قوله سبحانه : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ومعنى وأنتم لا تشعرون عليه وأنتم لا تشعرون إن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي ولا يتم بدون الأول وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب ولا تكونن ظهيرا للكافرين مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف وقال أبو حيان : إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافا فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجريا عل عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه و سلم وغض البصر عنده أن لو فعل ذلك كأنه قيل : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها ولا يخف ما في الشق الثاني من التكلف البارد ثم إن من الجهر ما لم يناوله النهي بالأتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو أرهاب عدو أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ أواستهانة ففي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولي المسلمون يوم حنين : ناد أصحاب السمرة فناد بأعل صوته أين أصحاب السمرة وكان رجلا صيتا يروي أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه

الصفحة 136