كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

فأسقطت الحوامل لشدة صوته وفيه يقول نابغة بني جعدة : زجرا أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم فقال : لأنها ألفت صوته وروي البخاري ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلى الله عليه و سلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو وما شأن ثابت اشتك قال سعد : إنه جاري وما علمت له بشكو فأتاه سعد فقال : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بل هو من أهل الجنة وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما شأن ثابت قالوا : يا رسول الله ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليه فسأله ما شأنك قال : يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلى الله عليه و سلم : لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير والظاهر أن ذلك منه رضي الله تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي وهو أيضا أجل من أن يكون ممن كان يقصد الأستهانة والإيذاء لرسول الله صلى الله عليه و سلم برفع الصوت وهم المنافقون الذين نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي ابن العجلان أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال : ما يبكيك يا ثابت فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة و السلام : أما ترضى أن تعيش حميدا أو تقتل شهيدا وتدخل الجنة قال : رضيت ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلى الله عليه و سلم
واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وعند قراءة حديثه عليه الصلاة و السلام لأن حرمته ميتا كحرمته حيا وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضا بحضرة العالم وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والأستهانة لمن يحرم إيذاؤه والأستهانة به مطلقا لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى
وقوله تعال : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله الخ ترغيب في الأنتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الأخلال به أي يحفظونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهي أولئك أشارة إلى اتلموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من تفخيم شأنه وهومبتدأ خبره الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى والجملة خبر إن وأصل معنى الأمتحان التجربة والأختبار والمراد به هنا لاستحالة نسبته إليه تعالى المرين بعلاقة اللزوم أي أنهم مرن الله تعالى قلوبهم للتقوى وفي الكشف الأمتحان كناية تلويحية عن صبرهم على التقوى وثباتهم عليها وعلى احتمال مشاقها لأن الممتحن جرب وعود منه الفعل مرة بعد أخرى فهو دال على التمرن الموجب للأضطلاع والإسناد إليه تعالى للدلالة على التمكين ففيه على ما قيل مع الكناية تجوز في الأسناد والأصل امتحنوا قلوبهم للتقوى بتمكين الله تعالى لهم وكأنه إنما

الصفحة 137