كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

وجاءت سكرة الموت بالحق إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لاقوه فخذوا جذركم والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع و سكرة الموت شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهمايصيب العقل بما يصيب وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الأستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا وليس بذاك والباء إما للتعدية كما في قولك : جاء الرسول بالخبر والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام وقيل : حقيقة الأمر وجليةالحال من سعادة الميت وشقاوته وقيل : بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الأنسان خلق له وأما للملابسة كما في قوله تعالى : تنبت بالدهن أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر وقيل : بالحكمة والغاية الجميلة وقريء سكرة الحق بالموت والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الأنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه وقيل : الباء بمعنى مع وقيل : سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن الحق من أسمائه عز و جل والأضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا ويوافق ذلك ما أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول : لآ إله إلا الله إن للموت سكرات وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم ابن محمد عن عائشة أيضا قالت : لقد رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : اللهم أعني على سكرات الموت ذلك أي الحق ما كنت منه تحيد
19
- أي تميل وتعدل فالأشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للأنسان مطلقا والأشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة وإنما جيء بقوله تعالى ولقد خلقنا الأنسان لأثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأ قوله سبحانه وتعالى : لقد كنت في غفلة الخ يناسب خطاب هؤلاء وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى
وأما حديث مقابلتهم فقد أخذ فيه حيث قال عز و جل : وأزلفت الجنة الآيات وقال بعض الأجلة : الأشارة إلى الموت والخطاب للأنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا
وقال الطيبي : إن كان قوله تعالى : وجاءت سكرة الموت متصلا بقوله سبحانه : بل هم في لبس من خلق جديد وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر وإن كان متصلا بقوله تعالى : ولقد خلقنا الأنسان فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر والألتفات لا يفارق الوجهين والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك : وجاءت كل نفس الخ وتفصيله بقوله تعالى : ألقينا في جهنم كل كفار عنيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد وفيه ما يعلم مما قدمنا وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد عن ذلك فقال : الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحكاه لصالح بن كسيان فقال والله من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال : أخالفهما جميعا

الصفحة 182