كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علنيا وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة قيل : استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال وأما المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنفية ومالك وأحمد وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع ما ذكره ابن أبي إسحاق بسنده وأبو داود من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنائه عليهما فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم ذلك رق لهما رقة شديدة وقال لأصحابه : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها ففعلوا ذلك مغتبطين به ورواه الحاكم وصححه وزاد وكان النبي صلى الله عليه و سلم قد أدخل عليه أن يخلي زينب إليه ففعل ومن صلى الله عليه و سلم على ثمامة أثال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة و السلام : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتني يعني أسارى بدر لتركتهم له فإنه صلى الله عليه و سلم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا
واستدل أيضا بالآية التي نحن فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء والظاهر أن المراد بالمن الإطلاق مجانا وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر وبعض النفوس يجد طعم الالاء أحلى من هذا المن
وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوخة بقوله تعالى : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضا قبل السورة
والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور وقال العلامة ابن الهمام : قد يقال إن ذلك يعني ما في سورة براءة في حق غير الأسارى بدليل جواز الأسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم وما ذكره في جواز الأسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب حتى تضع الحرب أوزارها أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره قال الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود موضونة تساق إلى الحرب عيرا فعيرا وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية ويجوز أن يكون في الحرب استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلا وكلام الكشاف أميل

الصفحة 41