كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)
يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبها أكل الأنعام وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلا مثل أكل الأنعام والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم وقوله تعالى : والنار مثوى لهم
12
- أي موضع إقامة لهم حال مقدر من واو يأكلون
وجوز أن يكون استئنافا وكان قوله تعالى : يتمتعون ويأكلون في مقابلة قوله سبحانه : وعملوا الصالحات لما فيه من الإيماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين وقال بعض الأجلة : في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولا دليلا على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانيا وذكر التمتع والمثوى ثانيا دليلا على حذف التقلل والمأوى أولا والأول أحسن وأدق وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى : والنار مثوى لهم وخولف بين الجملتين فعلية وإسمية للإيذان بسبق الرحمة والأعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون
وكأين بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ وقوله تعالى : من قرية تمييز لها وقوله سبحانه : هي أشد قوة من قريتك صفة لقرية كما أن قوله عز و جل : التي أخرجتك صفة لقريتك وقد حذف عنهما المضاف وأجري أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى : أهلكناهم أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازا وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلى الله عليه و سلم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلى الله تعالى عليه وسلم بما عاملوه فكانوا بذلك سببا لإخراجه حين أذن الله تعالى له عليه الصلاة و السلام بالهجرة منها ونظير ذلك أقد مني بلدك حق لي عليك وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجها ثلاثة مجازا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملا في معناه الذي وضع له وإن كان موهوما ومجازا في الظرف مستعملا في معنى الحمل على القدوم واستعارة بالكناية إن كان الحق مستعملا في المقدم والشيخ يقول في مثل ذلك : إن المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيا للقدوم وارتضاه السالكوتي في حواشي شرح مختصر التخليص وذب عنه القال والقيل وتمام الكلام هناك والكلام في الآية على طرز ذاك ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة و السلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها وعلى طريقته قول النابغة : كليب لعمري كان أكثر ناصرا وأيسر جرما منك ضرج بالدم