كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

كمن هو خالد في النار وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله والسلمي أمثال الجنة أي صفاتها قال ابن جني : وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا أنه قريء مثال الجنة ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به
من ماء غير آسن أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة وفي البحر أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح والمصدر أسون وأسن بكسر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي وأسن الرجال بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليهأو دار رأسه ومنه قول الشاعر : قد أترك القرن مصفرا أنامله يميد في الريح ميد المائح الأسن وقرأ ابن كثير وأهل مكة أسن على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة وقرأ يسن بالياء قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمزة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه لم يمحض ولم يصر قارصا ولا حاذرا كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم وأنهار من خمر لذة للشاربين أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أو مصدر نعت بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك وقرئت بالرفع على أنها صفة أنهار وبالنصب على أنها مفعول له كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا وأنهار من عسل مصفى مما يخالفه فلا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان وغيره وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها
وبدي بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغنى عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إليه ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب وقتال سعيد بن جبير : إنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل وأخرج ابن جرير عن سعد قال : سألت أبا إسحاق عن قوله تعالى : من ماء غير آسن فقال : سألت عنه الحرث فحدثني أن ذلك الماء تنسيم وقال بلغني : إنه لا تمسه يد وإنه يجيء الماء حتى يدخل الفم
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وإنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل
وأخرج الحرث بن أبي أسمامة في مسنده والبيهقي عن كعب قال : نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخيار ونحوها ثم أنها صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية

الصفحة 48