كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)
وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث إنهامكلف بها كما يشير إليه قوله : ولا مخرج عنه لأحد من المكلفين وكون ذلك مكلفابه باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الأستعداد لأفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر نعم لست أنكر إن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمي نحو هذه المعرفة تقليدية وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه وأذهب إلى أن النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشيء عن الأستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلم من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الإيمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب وكما يحتمل عقلا أن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم به قبل عروض شبهة ولعل هذا الأحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع
وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الأستدلال بقوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله على وجوب النظر فيه نظر لتوقفه على صحة قولهم : إن العلم لا يحصل بالنظر وقد سمعت ما فيه ويقوي ذلك إذا قلنا : إن علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والأستمرار على ما هو صلى الله تعالى عليه وسلم فيه من اجتناب ما يخل بالعلم وقد يقال : يجوز أن يكون الأستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث أنه أمر بالعلم بالوحدانيةفلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه باعتبار ما يحصل هو منه والظاهر أنه النظر
وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الأعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممكن أخبر الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة وأما النظر في معرفة الله تعالى أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا فقيل : يتعين أن يكون المراد به النظر في الألة العقلية فقط ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقا إليها لاستلزامه الدور وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم به وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها صادقا في دعواه الرسالة وعلمه بذلك