كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

إن قناتي من صليب اتالقنا ما زادها التثقيف إلا ضغنا والحقد في القلب يشبه به وقتال الليث وقطرب الضغن العداوة قال الشاعر :
قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصديق وشيد الأضغانا وهذا لا ينافي الأول لأن الحقد العداوة لأمر يخفيه المرء في قلبه والإخراج مختص بالأجسام والمراد به هنا الإبراز أي بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أنه لن يبرز الله تعالى إلى أحقادهم ويظهرها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فتبقى مستورة والمعنى إن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الأحتمال
ولو نشاء إراءتك إياهم لأريناكهم أي لعرفناكهم على أن الرؤية علمية فلعرفتهم بسيماهم تفريع لمعرفته صلى الله تعالى عليه وسلم على تعريف الله عز و جل ويجوز أن تكون الرؤية بصرية على أن المعنى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يعرفهم معرفة متفرعة على إراءته إياهم والإلتفات إلى نون العظمة للإيماء إلى العناية بالإراءة والسيما العلامة والمعنى هنا على الجمع لعمومها بالإضافة لكنها أفردت للإشارة إلى أن علاماتهم متحدة الجنس فكأنها شيء واحد أي فلعرفتهم بعلامات نسمهم بها ولام فلعرفتهم كلام لأريناكهم الواقعة في جواب لو لأن المعطوف على الجواب جواب وكررت في المعطوف للتأكيد وأما التي في قوله تعالى : ولتعرفنهم في لحن القول فواقعة في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على الجملة الشرطية ولحن القول أسلوب من أساليبه مطلقا أو المائلة عن الطريق المعروفة كأن يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام ولذا سمي خطأ الأعراب به لعدوله عن الصواب وقال الراغب : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة اراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالا وأما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود من حيث البلاغة وإليه أشار بقوله الشاعر عند أكثر الأدباء :
منطق صائب وتلحن أحيانا وخير الحديث ما كان لحنا وإياه قصد بقوله تعالى : ولتعرفهم في لحن القول وفي البحر يقال : لحنت له بفتح الحاء ألحن لحنا قلت له قولا لا يفهمه عنك ويخفى على غيره ولحنه هو بالكسر فهمه والحنته أنا إياه ولاحنت الناس فأطنتهم وقيل : لحن القول الذهاب عن الصواب وعن ابن عباس لحن القول هنا قولهم ما لنا أن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا أن عصينا من العقاب وكان هذا الذي ينبغي منهم وقال بعض من فسره بالأسلوب المائل عن الطريق المعروفة : إنهم كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح وكانوا أيضا يتكلمون بما يشعر بالأتباع وهم بخلاف ذلك كقولهم إذا دعاهم المؤمنون إلى نصرهم : إنا معكم والجملة إنهم كانوا يتكلمون بكلام ذي دسائس وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يعرفهم بذلك وعن أنس رضي الله تعالى عنه ما خفى بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيء من المنافقين كان عليه الصلاة و السلام يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق وفي دعواه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعرفهم بسيماهم أشكال فإن لو ظاهر عدم الوقوع بل المناسب معرفتهم من لحن القول وكأنه حمله على أنه وعد الوقوع دال على الأمتناع فيما سلف ولقد صدق وعده واستشهد عليه بما اتفق في بعض الغزوات ولا تنحصر السيما بالكتابة

الصفحة 77