كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)

الفعل الماضي من جهة الصيغة جعل دالا على الزمان المستقبل مستعملا فيه ومن البين أن المصدر على حاله لم يتغير معناه فكانت الأستعارة في الصيغة والهيئة أولى لأنها الدالة على الزمان الماضي وبواسطتها كانت الأستعارة في الفعل كما كانت الأستعارة في الفعل بواسطة المصدر والفرق أن هذه الأستعارة في الفعل بواسطة جوهره ومادته وفيما نحن فيه بواسطة صورته لا يقال : الدال على الزمان هو نفس اللفظ المشتق لأجزؤه لأنا نقول : يجري هذا الأحتمال في الأستعارة التبعية المشهورة بأن يقال : الدال على المعنى الحدثي هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأن المصدر بصيغته غير متحقق في المشتق فإن الضرب غير موجود في ضارب وضرب
فإن قلت : المصدر لفظ مستقل يمكن التعبير به عن معناه بخلاف الهيئة قلت : لفظ الزمان الماضي أيضا كذلك فلا فرق ولو سلم نقول في كل منهما : نستعير المعنى المطابقي للفظ الفعل بواسطة المعنى التضمني له ولا يبعد أن يسمى مثل هذا تبعية والأمر في التسمية هين لا اعتداد بشأنه ولعلهم إنما جعلوا الأستعارة في مثل ذلك بواسطة المصدر واعتبروا التغاير الأعتباري ولم يعتبروا ما اعتبرنا من تشبيه نفس الزمان حتى تصير الأستعارة في الفعل تبعية بلا تكلف رعاية لطي النشر بقدر الإمكان وأيضا في كون الصيغة والهيئة جزأ للفظ تأمل وأيضا الهيئة ليست جزأ مستقلا كالمصدر وأيضا الهيئة ليست لفظا والأستعارة قسم للفظ ولعل القوم لهذه كلها أو بعضها لم يلتفتوا إليه انتهى وفيه بحث وللفاضل مير صدر الدين رسالة في هذه الآية الكريمة تعرض فيها للمحقق في هذا المقام وتعقبها الفاضل يوسف القرباغي برسالة أطال الكلام فيها وجرح وعدل وذكر عدة احتمالات في الأستعارة التبعية ومال إلى أن الهيئة محتجا بما نقله من شرح المختصر العضدي ومن شرح الشرح للعلامة التفتازاني وأيده بنقول أخر فليراجع ذلك فإنه وإن كان في بعضه نظر لا يخلوا عن فائدة
والذي يترجح عندي أن الهيئة ليست بلفظ لكنها في حكمه وأنه قد يتصرف فيها بالتجوز كما في الخبر إذا استعمل في الإنشاء وإن المجاز المرسل يكون تبعيا بناء على ما ذكروه في وجه التبعية في الأستعارة وقول الصدر في الفرق : إن العلاقة في الأستعارة ملحوظة حين الأطلاق فإنهم صرحوا بأن اسم المشبه لا يطلق على المشبه إلا بعد دخوله في جنس المشبه به بخلاف المرسل فإن العلاقة باعثة للأنتقال وليست ملحوظة حين الأستعمال فلا ضرورة في القول بالتبعية فيه إن تم لا يجدي نفعا فافهم وزعم بعضهم أن التعبير بالماضي ههنا على حقيقة بناء على أن الفتح مجاز عن تيسسيره وتسهيله وهو مما لا يتوقف على حصول الفتح ووقوعه ليكون مستقبلا بالنسبة إلى زمن النزول مثله ألا ترى أن موسى عليه الصلاة و السلام سأل ربه تعالى بقوله : يسر لي أمري أن يسهل أمره وهو خلافته في أرضه وما يصحبها وأجيب إليه في موقف السؤال بقوله تعالى : قد أوتيت سؤلك يا موسى ولم يباشر بعد شيئا وحمله على الوعد بإيتاء السؤال خلاف الظاهر وأنت تعلم أن ما ذهب إليه الجمهور أظهر وأبلغ وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في الكشاف وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وإن منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمرا تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة وقيل غير ذلك واستشكل أمر المضي في كلامه تعالى بناء على ثبوت الكلام النفسي الأزلي للزوم الكذب لأن صدق الكلام يستدعي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل وأجيب بأن كلامه تعالى النفسي الأزلي لا يتصف بالماضي وغيره لعدم الزمان وتعقب بأن تحقق

الصفحة 88