كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 26)
حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلى الله تعالى عليه وسلم وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة و السلام يستقبل عددا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتخلفوا وقالوا : نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا : لن يرجع محمد عليه الصلاة و السلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك و المخلفون جمع مخلف قال الطبرسي : هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدوم و الأعراب في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذر إليك شغلتنا عن الذهاب معك أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال
وقرأ إبراهيم بن نوح بن بازان شغلتنا بتشديد الغين المعجمة للتكثير فاستغفر لنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان وهو كناية عن كذبهم فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلا من سيقول غير ظاهر والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة و السلام وكذا راجع لما تضمنه استغفر الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلى الله تعالى عليه وسلم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم أو تسمية ذلك كذبا ليس لعدم مطابقة نسبة الأعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطايقته الواقع بحسب الأعتقاد وفرق بين الأمرين قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا و أراد بكم نفعا أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم ومنه لا أملك رأس البعير وملكت إذا شددت عجنته وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما وإذا قلت : لا أملك كان نفيا للأستطاعة والطاقة إمساكا ومنعا فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم الخ واللام من لكم إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الأستطاعة مختصة بهم لأجلهم من الله حال من النكرة أعني شيئا مقدمة وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازا عنه أو مضمنا إياه واللام زائدة كما في ردف لكم و من متعلقة بيملك كما قيل والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف
وقرأ حمزة والكسائي ضرا بضم الضاد وهو لغة فيه وحالصل معنى الآية قل لهم إذ لا يدفع ضره ولا نفعه فليس الشغل بالأهل والمال عذرا فلا ذاك يدفع الضر إن أراده عز و جل ولا مغافضة العدو وتمنع