كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 27)
الشيء خلف القفا وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومهما وقيل : لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحافإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه وقيل : للذرية وفيه أن الرسل المقفى بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفى والمقفى به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه وقفينا بعيسى ابن مريم جعلناه بعد
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة و السلام وآتيناه الإنجيل بأن أوحيناه إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصةصلبه المفتراة وقرأ الحسن الأنجيل بفتح الهمزة قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له قال الزمخشري : وأمره أهون من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه وجعلنا في قلوب الذين اتبعون رأفة ورحمة أي خلقنا أو صيرنا ففي قلوب في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رحماء بينهم والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل : إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشرب ورأب الصدع وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقريء رآفة على فعالة كشجاعة ورهبانية منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية
ابتدعوها فهو من باب الأشتغال واعترض بأنه يشترط فيه كما قال ابن الشجري وأبو حيان أن يكون الأسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الأبتداء ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الأسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم : شر أهر ذا ناب
ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قيل وجملة ابتدعوها في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف وقال : الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والأنقطاع عن الناس وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف من رهب كخشيان من خشي وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل : وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناءا على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره وفائدة في قلوب على هذا التصوير على ما قيل ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الأنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا