كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 27)

التأويل أو أعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن ويراد في ابتدعوها وما بعده وليس الداعي للتأويل الأعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل
وقريء رهبانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب : يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال : إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطي حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال وقوله تعالى :
ما كتبناها عليهم
جملة مستأنفة وقوله سبحانه : إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزمواأنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى وقوله تعالى : فما رعوها حق رعايتها أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث أن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز و جل
واستدلبذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه وجوز أن يكون قوله تعالى : ما كتبناها الخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لأنفسه كما في الوجه الأول وقوله سبحانه : إلا ابتغاء الخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين ابتدعوها و ما كتبناها عليهم الخ حيث أن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء الخ ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال : الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤل ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أولا ما أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والداريات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم يعني الآية والظاهر أن ضمير فما رعوها لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن الأبتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في بنو تميم قتلوا زيدا والقاتل بعضهم
وقال الضحاك وغيره : الضمير في فما رعوها للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان به عليه الصلاة و السلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم

الصفحة 191