كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 27)

إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أجرهم أي ما يختص بهم من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة و السلام وليس بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر ويجوز أن يقال : إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة و السلام قال الزجاج : قوله تعالى : فما رعوها حق رعايتها على ضربين : أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم والآخر وهو الأجود أن يكونوا حيث بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية ودليل ذلك قوله تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم الخ انتهى فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة و السلام منهم وآمن به صلى الله تعالى عليه وسلم والفاسقين في قوله تعالى : وكثير منهم فاسقون
27
- على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم ومقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالأتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام
وفي الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلهم على دين الله وعيسى ابن مريم وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم الذين آمنوا بي وصدقوني وكثير منهم فاسقون الذين حجدوا بي وكفروا وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية على ذم البدعة مطلقا والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء : البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وةبناء المدارس والربط وغير ذلك ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك والحرام والمكروه ظاهران فعلم أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كل بدعة ضلالة من العام المخصوص
وقال صاحب جامع الأصول : الأبتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء

الصفحة 192