كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 28)
النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل وعندهم أن الأعز له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز و جل فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين
يآ أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله أي لا يشغلكم الأهتمام بتدبير أمورها والأعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الأشتغال بذكر الله عز و جل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها
وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض وقال الضحاك وعطاء : الذكر هنا الصلاة المكتوبة وقال الكلبي : الجهاد مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : القرآن والعموم أولى ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا وعبر بهما عنهما لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا فإذا أريد بذكر العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية وقد نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم الخ فالتجوز في الإسناد وقيل : إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج أي لا تكونوا بحيث تلهكم أموالكم الخ
ومن يفعل ذلك أي اللهو بها وهو الشغل وهذا أبلغ مما لو قيل : ومن تلهه تلك فأولئك هم الخاسرون
9
- حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني وفي التعريف بالأشارة والحصر للخسران فيهم وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة وكأنه لما نهى المنافقون عن الإنفاق على من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وأريد الحث على الإنفاق جعل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا الخ تمهيدا وتوطئة للأمر بالإنفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه : وأنفقوا من ما رزقناكم أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارا للآخرة من قبل أن يأتي أحدكم الموت أي أماراته ومقدماته فالكلام على تقدير مضاف ولذا فرع على ذلك قوله تعالى : فيقول رب لو لا أخرتني أي أمهلتني إلى أجل قريب أي أمد قصير فأصدق أي فأتصدق وبذلك قرأ أبي وعبد الله وابن جبير ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه : وأكن من الصالحين
10
- بالعطف على موضع فأصدق كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي والزجاج وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه للمتني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح والفرق بين العطف