كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 28)

واختار بعضهم كون المعنى هو الذيخلقكم خلقا بعديعا حاويا لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائرالنعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا وهو الذي ذهب إليه الزمخشري بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأن الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلقوالإيجاد من النعم وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته ثم قال : فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الأستعارة كاللام في قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهي كالفاء في قوله تعالى : وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهمفاسقون ولم يجعلها للتفصيل كما قيل
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالىفي ملكه وملكوته واستبداده فيهما وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكوناتذواتها وأعراضها ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف واعترض قول الزمخشري : فما أجهل الخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلو لا خلقه وتبيين ما فيه من المضار مقدار الأنعام بالإيمان وما فيه منالمنافع ثم إن كونه كفراباعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لاعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه ثم قال : ومنه يظهر أن تكلفه في قوله تعالى : فمنكم الخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في خلقكم تحريف لكتاب الله تعالى انتهى
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى : كافر ومؤمن دون من يكفر ومنيؤمن نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها وقوله ص - : كل مولود يولد على الفطرة والإنصاف أن الآية تحتمل كلامن المعنيين : المعنى الذي ذكر أولا والمعنى الذي اختاره البعض والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل : إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين وقوله تعالى : والله بما تعملون بصير
2
- أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما في الكلام على قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول وكأني بك تختار الثانيلأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به وعن عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر أي باللهتعالى مؤمن بالكوكب ومنكم مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب وقيل : فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ومنكم مؤمن به وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق ولا أراه يصح وكأنه من كذب المعتزلة عليه والجملة على ما استظهر بعض الأفاضل معطوفة على الصلة ولا يضره عدم العائد لأن

الصفحة 120