كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 28)
فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذ دافع لحاجة الأكل وغيره وذكر الواني أن الأطعام جعل الغير طاعما أي آكلا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته والهمزة تعديه إلى المفعول الثاني أي جعلته ىكلا وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكا بقرينة الحال قالوا : والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة انتهى فلا تغفل
ويجوز الجمع بين الأباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذاملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداءا وعشاءا وكذا لرجل واحد في إحد روايتين كأن غداه مثلا وأعطاه مدا وإن أعطي مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سد خلة المحتاج والحاجة تتجدد في كل يوم فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره وهذا في الأباحة من غير خلاف وأماالتمليك منمسكين واحد بدفعات فقد قيل : لا يجزيه وقيل : يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص وخالف الشافعية فقالوا : لا بد من الدفع إلى ستين مسكينا حقيقة فلا يجزيء الدفع لواحد في ستين يوما وهو مذهب مالك والصحيح من مذهب أحمد وبه قال أكثر العلماء لأنه تعالى نص على ستين مسكينا وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سد خلة المحتاج الخ مبطلا لمقتضى النص فلا يجوز وأصحابنا أشد موافقة لهذا الأصل ولذا قالوا : لا يجزيء الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أنتفريق الدفع غيرمصرح به وإنماهو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنهالمستلزم وغاية ما يعطيه كلامهمأنهبتكرار الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددا حكما وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا في الآية مراد به الأعم منالستين حقيقة أو حكما
ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه فإن قلت : المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج فيهالتعدد الحكمي ما هو قلت : هو الحاجة فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أنالعدد ممايقصد لما في تعميم الجميع منبركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء قاله في فتح القدير وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضا منالحنطة وبعضا منالشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع منبر ونصف صاع منشعير وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود وهوالأطعام ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه وهو البر والشعير ودقيق كل وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف صاعتمر يبلغ قيمة نصف صاع بر ولا يجوز فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم ومن غير المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنمآ الأعتبار في غير المنصوص عليه ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقا