كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 28)

إياك أن تقول في مجلسنا : المسألة شرعا كذا وقد أصابني منه عامله الله بعد له لعد ولي عن قوله مزيد الأذى واتفق أن قال لي بعض خاصته يوما : أرى ثلثي الشرع شرا فقلت له وإن كنت عالما أن في أذنيه وقرا : نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الأشارة والذي ينبغي أن يقال في ذلك : إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليق ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد مخصوص بل فوض التأديب عليها إلى رأي الأمام كأنواع التعاذير وللأمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الأمام حق الله تعال للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في شرح المنهاج والقواعد لا تأباه نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الأفراط والتفريط وقد شاهدنا في الغراق مما يسمونه جزاءا ما القتل أهون منه بكثير ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير
وأما ما يتعلق بالحدود الآلهية كقطع السارق ورجم الزاني المحصن وما فصل في حق الطريق منقطع الأيدي والأرجل منخلاف وغيره مما فصل في آيتهم إلى غير ذلك فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه شرعا ولا نسميه قانونا و أصولا وإن لم يكن موافقا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم بالكرشته لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز و جل
وأما ما يتعلق بحق بيت المال في الأراضي فما كان موافقا لعمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفا لعمل الخلفاء الصادر باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرا إلى زمانهمفهو مما لا بأس فيه وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس ولا يجري هذا التفصيل فيماوصفه رسول الله عليه الصلاة و السلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلا على ما ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج وما ليس فيه موافقة ولا مخاتلفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصا عليه كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الأراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والأباحة فإن دخل في عمومات الأباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد وأمرتكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصا لها بعد ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول : وإن تلك الأحكامأصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلها وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها ويقول كلما ذكرها : الأصول المستحسنة وكان يرشح كلامه بنفي رسالةالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم في أكثر المسائل والبلية العظمى أنهم يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك

الصفحة 21