كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 28)
فكأنه قيل : تبوأوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنتتريد زيدا ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف وقيل : إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى وقيل : الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين وهو أيضا ليس بشيء وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك منقبلهم أي من قبل المهاجرين والجار متعلق بتبوأوا والكلام بتقدير مضاف أي من قبلهجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ولا يلزم منه سبق إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس وجوزأن لا يقدر مضاف ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل يبقهم إياهمفي التمكن فيه لأنهملم ينازعوا فيه لما أظهروه
وقيل : الكلام على التقديم والتأخير والتقدير تبوأوا الدار والإيمانفيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا وقيل : لا حاجة إلى شيء مما ذكر وقصارى ما تدل الآية عليه تقدممجموع تبويء الأنصاري وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو ههناتبوؤ الدار وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال : بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهمعلى تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يحيونمنهاجر إليهم في موضع الحالمن الموصول وقيل : استئناف والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدمالأستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم وقيل : على ظاهره أييحبون المهاجر إليهممنحيث مهاجرته إليهملحبهمالإيمان ولا يجدون في صدورهم أي ولا يعلمون في أنفسهم
حاجة أي كطلب محتاج إليه مما أوتوا أي مما أعطي المهاجرونمن الفيء وغيره وحاصله أن نفوسهملم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمع إلى شيء منه تحتاج إليه فالوجدان إدراك عملي وكونه في الصدر من باب المجاز والحاجة بمعنى المحتاج إليه وهو استعمالشائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاهمنمالهحاجته و من تبعيضية وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مر في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس
ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون في أنفسهمما يحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها وقيل : على أنها كناية به عماذكر لأنهلا ينفكعن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم وما تقدم أولى وقولبعضهم : أي أثر تقدير معنى لا إعراب و من في قوله تعالى : مما أوتوا تعليلية ويؤثرون أي يقدمونالمهاجرين على آنفسهم في كل شيءمن الطيبات حتى أنمنكان عندهامرأتانكان ينزل عن إحداهماويزوجها واحدا منهم ويجوز أنلا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن