كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 28)

ولا يستوي أصحاب النار الذين نسوا الله تعالى فاستحقوا الخلود في النار وأصحاب الجنة الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبيء عنه عدم الأستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهومعدم الأستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادةونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادةالزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص وعليه قوله تعالى : هل يستوي الأعمى والبصير أمهل تستوي الظلمات والنور إلى غير ذلك
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لأن صفته ملكة لصفة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها والمراد بعدم الأستواء عدم الأستواء في الأحوال الأخروية كما ينبيء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة وكذا قوله تعالى : أصحاب الجنة هم الفائزون
20
- فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الأستواء بينهما أي الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه وهذا كما تقول لمن عق أباه : هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا : لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز و جل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحا للتوقيع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين فالمقام يقتضي التباين في حكم الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في المدار وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون : إن العموم مدلول نفي المساوات لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ وقول الحنفية : إن الأستواء مطلقا أعم من الأستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه والنفي إنما دخل على الأستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع ألا ترى أن من قال : ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا وتمام ذلك في كتب الأصول والأنصاف أن كون المراد هنا نفي الأستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الأستدلال بها على ما ذكر
لو أنزلنا هذا القرآن العظيم الشأن على المنطوي على فنون القوارع على جبل من الجبال أو جبل عظيم لرأيته مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه خاشعا متصدعا من خشية الله أي متشققا منها
وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى :

الصفحة 61