كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)

بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه فكأن التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى وهو كما ترى وقيل الإستثناء من أعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للإستغراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه قم الليل الخ ورتل القرآن أي في أثناء ما ذكر من القيام أي أقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف ترتيلا بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض وأخرج العسكري في المواعظ عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة إنا سنلقي عليك أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى قولا ثقيلا وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين سيما على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه عليه الصلاة و السلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة و السلام من القيام كأنه قيل إنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها من الإعتراض جملة ورتل الخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثقيلا أنه رصين لأحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل على الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقيل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقيه يثقل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحى إليه عليه الصلاة و السلام على إنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة و السلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ الأعلى بحيث يسمع ما يوحى به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة و السلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلى الله تعالى عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحي إليه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وروي الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وأن جبينه ليتفصد عرقا وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ثقيلا صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي القاء ثقيلا وليس صفة قولا وقيل ذلك عن بقائه على وجه الدهر لآ الثقيل من شأنه أن سيقى في مكانه وقيل ثقلة باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل

الصفحة 104