كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
إليه عز و جل وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الإختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا هواي لهفرض تعطف أم جفا
ومنه له عذب تكدر أم صفا وكلت إلى المعشوق أمري كله
فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا ومن كلام بعض السادة من رضي بالله تعالى وكيلا وجد إلى كلخير سبيلا واصبر على ما يقولون مما يؤلمك من الخرافات كقولهم يفرق بين الحبيب وحبيبه على ما سمعت في بعض روايات أسباب النزول واهجرهم هجرا جميلا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى وذرني والمكذبين أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إلي فإن فيما يفرغ بالك ويجلي همك ومر في أن تمام الكلام في ذلك وجوز في المكذبين هنا أن يكونوا هم القائلين ففيه وضع الظاهر موضع المضمر وسما لهم بميسم الذم مع الإشارة إلى علة الوعيد وجوز أن يكونوا بعض القائلين فهو على معنى ذرنيوالمكذبين منهم والآية قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل في المطعمين يوم بدر أولي النعمة أرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة المال والولد فالنعمة بالفتح التنعم وأما بالكسر فهي الأنعام وما ينعم به وأما بالضم فهي المسرة ومهلهم قليلا أيزمانا قليلا وهو مدة الحياة الدنيا وقيل المدة الباقية إلى يوم بدر وأيا ما كان فقليلا نصب على الظرفية وجوز أن يكون نصبا على المصدرية أي أمها لا قليلا والتفعيل لتكثير المفعول إن لدينا أنكالا جمعن كل بكسر النون وفتحها وهو القيد الثقيل وقيل الشديد وقال الكلبي الأنكار الأغلال والأول أعرف في اللغة وعن الشعبي لم تجعل الأنكال في أرجلهم حوفا من هربهم ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم والجملة تعليل لقوله تعالى ذرني وما عطف عليه فكأنه قيل كل أمرهم إلي ومهلهم لأن عندي ما أنتقم به منهم أشد الإنتقام إنكالا وجحيما نارا شديدة الإيقاد وطعاما ذا غصة ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم وعن ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل وعذابا إليما يوم ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يعرف كأنه إلا الله عز و جلكما يشعربذلك المقاب والتنكير وما أعظم هذه الآية فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي داود في الشريعة وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريق حمران بن أعين عن أبيحرب بن الأسود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمع رجلا يقرأ أن لدينا أنكالا الخ فصعقو في رواية أنه عليه الصلاة و السلام نفسه قرأ أن لدينا أنكالا فلما بلغ أليما صعقو قال خالد بن حسان أمسى عندنا الحسن وهو صائم فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآيةأن لدينا الخ فقال ارفعه فلما كانت الليلة الثانية أتيته بطعام فعرضت له أيضا فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فانطلق ابنه إلىثابت البناني ويزيد الضبي ويحيىالبكاء فحدثهم فجاؤا معه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق وفي الحديث السابق إذا صح ما يقيم العذر للصوفية ونحوهم الذين يصعقون عند سماع بعض الآيات ويقعد إنكار عائشة رضي الله تعالى عنها ومن وافقها عليهم اللهم إلا أن يقال أن الإنكار ليس إلا على من يصدر منه ذلك اختيارا وهو أهل لأن ينكر عليه كما لا يخفى أو يقال صعقمن الصعق بسكون العين وقد يحرك غشي عليه لا من الصعق بالفتح شدة الصوت وذلكما لم تنكره عائشة رضي الله تعالى عنها ولا غيرها وللإمام في الآية كلام علىنحو كلام الصوفية قال أعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية إما الإنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب