كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)
بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه وقيل أنه أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بالتخلق بالأخلاق الحسنة الموجبة لقبول الإنذار بعد أمره عليه الصلاة و السلام بتخصيصه ربه عز و جل بالتكبير الذي ربما يوهم إباءه خفض الجناح لما سواه عز و جل واقتضاه عدم المبالاة والأكتراث بمن كان فضلا عن أعداء الله جل وعلا فكان ذكره لدفع ذلك التوهم وقيل على تفسير المدثر بالتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية المعنى طهر دثارات النبوة وآثارها وأنوارها الساطعة من مشكاة ذاتك عما يدنسها من الحقد والضجر وقلة الصبر وقيل الثياب كناية عن السماء كما قال تعالى هن لباس لكم وتطهيرهن من الخطايا والمعايب بالوعظ والتأديب كما قال سبحانه قوا أنفسسكم وأهليكم نارا وقيل تطهيرهن اختيار المؤمنات العفائف منهن وقيل وطؤهن في القبل لا في الدبر وفي الطهرلا في الحيض حكاه ابن بحر وأصلال قول فيما أرى بعيد عن السياق ثم رأيت الفخر صرح بذلك وذهبت جمع إلى أن الثياب على حقيقتها فقال محمد بن سيرين أي أغسلها بالماء إن كانت متنجسة وروي نحوه عن ابن زيد وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن هنا ذهب غير واحد إلى وجوب غسل من ثياب المصلي وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن ابن زيد مخالفة للمشركين لأنهم ما كانوا يصونوا ثيابهم عن النجاسات وقيل ألقى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم سلا شاة فشق عليه فرجع إلى بيته حزينا فتدثر فقيل له يا أيها المدثر قم فأنذر ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار وربك فكبر عن أن لا ينتقم منهم وثيابك فطهر عن تلك النجاسات والقاذورات وإرادة التطهير من النجاسة للصلاة بدون ملاحظة قصة قيل خلاف الظاهر ولا تناسب الجملة عليها ما قبلها إلا على تقدير أن يراد بالتكبير التكبير للصلاة وبعض من فسر الثياب بالجسم جوز إبقاء التطهير على حقيقته وقال أمر عليه الصلاة و السلام بالتنظيف وقت الإسنجاء لأن العرب ما كانوا ينظفون أجسامهم أيضا عن النجاسة وكان كثير منهم يبول على عقبه وقال بعض الأمر لمطلق الطلب فإن تطهير ما ليس بطاهر من الثياب واجب في الصلاة ومحبوب في غيرها وقيل تطهيرها تقصيرها وهو أيضا أمر له عليه الصلاة و السلام برفض عادات العرب المذمومة فقد ماتت عاداتهم تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر قال الشاعر ثم راحوا عبق المسك بهم
يلحفون الأرض هداب الأزر وفي الحديث أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار واستعمال التطهير في التقصير مجاز للزومه له فكثيرا ما يفضي تطويلها إلى جر ذيولها على القاذورات ومن الناس من جعل التقصير بعد إرادته من التطهير كناية عن عدم التكبر والخيلاء ويكون ذلك أمرا له صلى الله تعالى عليه وسلم بالتواضع والمداومة على ترك جر ذيول التكبر والخيلاء بعد أمره بتخصيص الكبرياء والعظمة به تعالى قولا واعتقادا فكأنه قيل وربك فكبر وأنت لا تتكبر ليتسنى لك أمر الإنذار وبعض من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل التطهير على حقيقته ومجازه أعني التقصير والتوصل إلى إرادة مثل ذلك عند من لا يرى جواز الجمع سهل وجوز أن يراد بالتطهير إزالة مايستقذر مطلقا سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر ومنه الأوساخ فيكون ذلك أمرا له صلى الله تعالى عليه وسلم بتنظيف ثيابه وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره منكل ما يستقذر فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك ولذا صلى الله تعالى عليه وسلم أنظف الناس ثوبا وبدنا وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى أيضا الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل والرجز فاهجر قال القتبي الرجز