كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)

في جميع تجلياته واعترض بأن تقديم المعمول يعني إلى ربها يفيد الأختصاص كما في نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى وحيث كان الأختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم لا يتمحض للأختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والأهتمام قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لا لتفات ما سواه جل جلاله فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم وفي حديث جار الله وقد رواه ابن ماجه فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ومن هنا قيل فينسون النعيم إذا رأوه
فيا خسران أهل الأعتزال وكثيرا ما يحصل محو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء من جميع المون فلما استبان الصبح أدرج ضوءه
بأسفاره أنوار ضوء الكواكب وقيل الكلام على حذف مضاف أي ملك أو رحمة أو ثواب ربها ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى الأنتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة وتعقب بأن الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي مردود في محله وبأن النظر بمعنى الأنتظار لالا يتعدى بإلى بل بنفسه لا بسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو يأتي إرادة الذات من الوجه وتفصي الشريف المرتضي في الدرر على بعض هذا بأن إلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به لناظره بمعنى منتظرة فيكون الأنتظار قد تعدى بنفسه وفيه من البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر بمعنى الأنتظار ليتعقب عليه بما تعقب بل أراد أن النظر بالمعنى النتعارف كناية عن التوقع والرجاء فالمعنى عنده أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه سبحانه وتعالى ويرد عليه أنه يرجع إلى إرادة الأنتظار لكن كناية والأنتظار لا يساعده المقام إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الأنتظار موت أحمر و الذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدار قطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أدنى أهل الجنة منزلة لم ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فهو تفسير منه عليه الصلاة و السلام ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين ومثل هذا فيما ذكر ما أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي ص - أقرأه وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فقال والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطمعون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه فينظرون إليه وينظر إليهم عز و جل وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز و جل وأنشدوا

الصفحة 145