كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 29)

النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء على معنى التقريب ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للأستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد منفسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر إلا أنها بمعنى قد حقيقة وفي المغنى ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالأنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدهر الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدةالعالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي ونوقف الأمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في الأيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال والله لا أكلمه دهراوالمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إنلم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوي الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة و السلام مستدلا كل بدليل وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الرفع إليه أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئا مذكورا بل كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معلوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لميكن الخ حال من الأنسان أيغير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا وإطلاق الإنسان على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالأنسان آدم عليه السلام وأيد بقوله تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة فإن الإنسان فيه معرفة مادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فأتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا لا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص نعم دل قوله سبحانه من نطفة على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح وحكي الماوردي عنه أن الحين المذكور ههنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر أنه قال إن من الحين حين الا يدرك وتلا الآية فقال والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للأستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالأجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الأعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب 358 من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني فجعل نفسه كنزا لا يكون إلا مكتنزا في شيئ فلم يكن كنز الحق نفسه لا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كأن الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان ثوب الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجود وعلم أنه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وكل شيء أحصيناه في إمام مبين والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنا نقول كون هل هنا للأنكار منكر وإن دعوى صحة ذلك لأحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الأيجابي أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يقرأ هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فقال ليتها تمت وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أمشاج جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج يقال مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى أختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته وفي بعض الآثار إنما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم أعشار أي متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا وحكى عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومضى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان وقيل اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرا كما يخضر الماء بالمكث وروي عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال الأمشاج العروق التي في النطفة وروي ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق وروي عكرمة وكذاابن عباس أنه قال أمشاج أطوار أي ذات أطوار فإنه النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى نبتليه حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الإستعارة لأن المنقول يظهر في كل طور ظهورا آخر كظهور نتيجة الأبتلاء والأمتحان بعده وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل أن الإبتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سميعا لأقبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه فجعلناه سميعا بصيرا وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا

الصفحة 151